أخبار عربية ودولية

اليابان .. التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والصناعة والثقافة

بقلم / أ.د. محمد الأمين البشرى محجوب

سلسلة مقالات عن اليابان يكتبها الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب الذي حصل على درجة الماجستير والدكتوراة في كيو اليابانية وعمل محاضراً في الجامعات اليابانية لأكثر من ثلاثة عقود. ومن واقع تجربته ومعرفته الممتدة يتناول هنا في هذه المقالات التعريف باليابان من حيث التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والصناعة والثقافة وخصائص الشخصية اليابانية وأسرارها،لعلها تفيد رجال الاقتصاد والصناعة والسياسة وطلاب العلم والسائحين.

كتب الكثيرون عن اليابان في أوائل القرن العشرين ، ومن ذلك كتاب “الرحلة اليابانية” لعلي أحمد الجرجاوي عام 1907 ، وكتاب أحمد الفضلي “سر تقدم اليابان” عام 1911. كما كتب عن العلاقات اليابانية الإسلامية والياباني أحمد أريجا عام 1909. وفي العصر الحديث كتب البعض عن اليابان على إثر زيارات عارضة قاموا بها ، أو في ضوء دراسات استطلاعية سيطرت عليها أضواء المدن وظواهر الأمور وأخبار الصحف. كتب أنيس منصور من مصر وكتب أبو العزائم من السودان ، كتب “ايزرا فوقل” من الولايات المتحدة الأمريكية كتابا ، كان الأكثر شهرة وترجم إلى أكثر من لغة ، تناول فيه اليابان مجتمعا ، اقتصادا ، سياسة ، أمنا وإدارة تحت عنوان:
[Japan As Number One – Lessons For America and The West.]

و كتب “وليم بيلي” الخبير الأمريكي في الشئون الدولية. كما كتب “كريج باركر” وغيره. جاءت تلك الكتابات – كما أسلفت – وصفية انطباعية وخلصت إلى نتائج تؤكد نجاح التجربة اليابانية في مختلف نواحي الحياة ، وجاءت الآراء مطابقة في الإشادة باليابان واليابانيين، والإدارة اليابانية على وجه الخصوص. وأصبح بعد ذلك الحديث عن اليابان والإشادة بالإنجازات اليابانية نقلاً بالتواتر. وهكذا جرت عبارة التجربة اليابانية  على الألسن كظاهرة مألوفة، دون أن تسبقها بدراسات علمية تغوص في أعماق التجربة اليابانية وتكشف اسرار النجاح الياباني كقوة صناعية واقتصادية ، ذات مجتمع يتمتع بالاستقرار والرفاهية.

ترددت في الكتابة عن اليابان ، لأنني ورغم السنين الطويلة التي عشتها في اليابان ورغم زياراتي المتكررة لليابان ، أجد نفسي كل يوم امام  معلومة جديدة. كل لحظة صفا مع الياباني رجلاً كان أو امرأة ، طفلاً كان أو كهلاً تمنحك معارف جديدة وأفكار كبيرة تستحق المراجعة. الشعب الياباني شعب مميز، واسع الاطلاع ومفكر ، ويعرف كيف يسأل وكيف يجيب وكيف يستمع، لذا يدعوك للتأمل. شعب صادق يعلمك ما يعلم ولكن عدم قناعته بما وصل إليه من نجاح يجعله لا يميل إلى الحديث حول نجاحاته ولعل ذلك سر سعيه الدؤوب وسبب تقدمه المطرد، فيما عُرف مؤخراً بالكايزن أو الاستراتيجية اليابانية للتطوير المستدام.
عشت في اليابان كمتدرب، وعشت فيه كطالب. سكنت الفنادق ومجمعات الطلاب ومجمعات المتدربين، عشت مع عائلات يابانية في المدن والأرياف ، عشت بأسرتي في الشقق اليابانية التقليدية ذات الأرضية المنسوجة من ” التتامي” أي بدون سراير ومجالس. مررت بمختلف تجارب الحياة والتجمعات الاجتماعية ، قمت بالتدريس في المعاهد والجامعات ومدارس الأطفال وعملت مع الشركات ورجال القانون. زرت مطاعمها ومراقصها وإسطبلات أبطال “السومو” – الرياضة اليابانية الشعبية. التقيت برجال الأمن والسياسة والوزراء وتناولت العشاء مع رئيس الوزراء  الأسبق ناكاسوني في داره ذات ليلة. أصبح الكثيرون من زملاء الدراسة وزراء وقيادات عليا في الأجهزة التشريعية والقضائية والتنفيذية. بعد زيارات سنوية امتدت لعقدين والعيش فيها أكثر من ثمانية أعوام وتعلم لغة القوم ، أكاد أعرف الكثير عن اليابان طولا وعرضا. ومع ذلك لا أدعي بأنني قادر على بلورة التجربة اليابانية بالكيفية التي تمكن دولة نامية من الاستفادة منها والعمل بها. لأن التجربة اليابانية ليست منهاجا أو استراتيجية أو أرقاماً محسوبة.. التجربة اليابانية ليست هي الإدارة كما يقول علماء الإدارة ، التجربة اليابانية ليست صناعة متميزة أو علوم أو تقانة خارقة.. التجربة اليابانية هي بإيجاز الإنسان الياباني بأصوله وجذوره الراسخة التي لا تهتز – رغم آلاف الهزات الأرضية التي تضرب البلاد كل يوم. الياباني يحترم الانسان، يقدس القوانين والنظم، يعبد العمل ، يعشق الابتكار والتطوير المستدام . فكانت النتيجة المؤسسات التعليمية المبدعة ومراكز البحوث العلمية والخروج للعالم الخارجي لنقل المعارف والعلوم والتجارب بمفهوم البدء من حيث انتهى الآخرون.. أصبحت مصطلحات اللغة اليابانية  مثل كايزن ، كايكاكو وقمبا تفرض نفسها بين مصطلحات العلوم الحديثة وشعارات الجودة والتميز.

ينظر البعض لليابان وكأنها تجربة حديثة أو ظاهرة عارضة من ظواهر النصف الثاني من القرن العشرين. ويقفزون بذلك فوق حقائق التاريخ ، وكذلك ينحرفون بالتحليل والاستنتاج. فالإمبراطورية اليابانية لم تبدأ بعد الحرب العالمية الثانية كما يعتقد البعض..الإمبراطورية اليابانية دخلت الحرب العالمية الثانية وهي أقوى مما هو عليه الآن. كانت لليابان إمكانات عسكرية هائلة وقدرات فنية مكنته من غزو الصين وكوريا ومنشوريا والسعي إلى احتلال الولايات المتحدة الأمريكية.

البنيات التحتية التي أقيمت قبل الحرب العالمية الثانية ما زالت قائمة دليلا على الكفاءة والقدرات اليابانية الهائلة التي تشبه المعجزات. الطرق البرية ، الأنفاق ، إعمار قمم الجبال والغابات وشق طرقها ، صناعة السفن والطائرات وغيرها من الإنجازات مؤشرات وشواهد.

بين العالم العربي واليابان علاقات سياسية متوازنة تتميز بالأدب الشديد والاحترام المتبادل ، وتعاون اقتصادي غير محدود – تتسم بالأمانة والعدل وتقدير المصالح المشتركة ، ويعزي نجاح تلك العلاقات  – في تقديرنا – إلى الاهتمام الياباني بالتاريخ العربي وثقافاته وتقاليد شعوبه. لقد أفسح اليابانيون مساحات واسعة في أبحاثهم ودراساتهم للعالم العربي خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.. أوفدوا الباحثين والطلاب إلى المؤسسات التعليمية في مصر ، سوريا ، المملكة العربية السعودية والعراق ودول المغرب العربي للدراسة والتحصيل والتعرف على العرب بالقدر الذي يمكنهم من التعامل معهم. درس اليابانيون اللغة العربية والتاريخ والدين الإسلامي. ترجموا نفائس الكتب العربية القديمة إلى اللغة اليابانية وفي مقدمة تراجمهم معاني القرآن الكريم ، الأحكام السلطانية، الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية ، السيرة النبوية ، رياض الصالحين وغيرها من كتب الفقه والتاريخ. أنشأ اليابانيون في بلادهم معاهد للغة العربية وأقسام للدراسات العربية في الجامعات ، حتى أصبحت الدراسات العربية تشكل معلما بارزا في مقررات الجامعات اليابانية والمعاهد العليا.

أما العالم العربي ، ورغم ارتباطه اليومي باليابان ، عن طريق الاقتصاد والصناعة ، والمشاريع الاستثمارية وخطط التنمية ، والمنح والمساعدات الإنسانية  المقدمة من اليابان، لم تبذل الدول العربية جهدا كافياً للتعرف على اليابان أرضا وشعبا وثقافة بالقدر الذي يتناسب وحجم العلاقات الاقتصادية القائمة بين الطرفين. لقد ظل التعامل بين العالم العربي واليابان من جهة العرب ، أشبه بالعلاقة بين البائع المتجول وعملائه ، لذا اقتصرت العلاقة على الاستيراد والتصدير ولم تبلغ مرحلة التبادل الحقيقي للمنافع كما حدث  مؤخرا بين اليابان ودول آسيا التي تنمرت بفضل اليابان.

إن العلاقات الاقتصادية بين العالم العربي واليابان – رغم ضخامة حجمها – لم تحقق ما كان متوقعا من نقل للتكنولوجيا وتغذية العقول بالمعرفة والخبرة والقدرة على الإنتاج دون الاستهلاك رغم أن الطريق إلى اليابان ظل مفتوحا وممهدا خلال القرن الماضي في شكل منح دراسية ودورات تدريبية وفرص لتعليم اللغة اليابانية. اليابان هي الدولة الوحيدة التي ظلت تسعى لفتح معاهد اللغة اليابانية في الجامعات العربية وهي الدولة التي وفرت للدول العربية فرصاً للدراسة والتدريب غير محدودة. ولكن لم يقبل الطلاب العرب على تلك الفرص إلا مؤخرا. ولعل من المناسب هنا، الإشارة إلى الخطوات الإيجابية التي قامت بها دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخراً، بالاتجاه العلمي والتقني نحو اليابان. استناداً إلى العلاقات الاقتصادية الراسخة بين البلدين. وتعززت تلك الخطوات بزيارات متبادلة بين المسؤولين، وعلى رأسها زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى اليابان وزيارة رئيس الوزراء الياباني لدولة الإمارات ، وقد تبع تلك الزيارات إيفاد الطلاب والمتدربين إلى اليابان وتبادل الخبرات التكنولوجية.

توضيحاً لما تقدم نتناول في هـذه المقالات اليابان بالتعريف: أرضاً وإنساناً ، حضارة وثقافة ، سياسة واقتصاداً ، تعليماً وأمناً. وذلك في محاولة ودعوة للتعرف على اليابان واليابانيين بقدر من التعمق والتأمل دون أن تأخذنا المظاهر الخارجية ودون أن تبهرنا أضواء الصناعات اليابانية ومؤشرات التطور التقني.

في هذه المقالات حصـيلة من المعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية ، والثقافية المتصلة باليابان كما عشتها لأكثر من ثلاثة عقود. (1) يتبع …

  • الأستاذ الدكتور .محمد الأمين البشرى محجوب
    باحث في الشؤون اليابانية
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى