أخبار عربية ودولية

العسكرية اليابانية وبناء الإنسان …

بقلم :الدكتور / محمد الأمين البشرى* 

سبق أن أوضحنا أن الإمبراطورية اليابانية كانت عبارة عن دويلات صغيرة متفرقة ومتناحرة عاشت سلسلة من الحروب الطويلة ، امتدت من القرن العاشر وحتى القرن التاسع عشر. وكانت تلك الحروب بهدف التوحيد وبناء إمبراطورية قوية ومتماسكة. ثم دخل اليابانيون الحروب الخارجية  في الصين وكوريا ومنغوليا والحربين العالميتين. ولاشك أن تلك الحروب بمعاناتها وقساوتها أسهمت في بناء الإنسان الياباني الحالي الذي يعبد السلام ويعشق العمل والإنتاج والرفاهية. كما أفرزت تلك الحروب قيادات فذة جمعت بين القدرات العسكرية والسياسية ، قامت بأدوار بارزة سجلها التاريخ الياباني لدورها المتميز في إرساء قواعد الدولة وبناء الاستقرار كعنصر رئيسي للنهضة الصناعية والاقتصادية. رأينا هنا التعريف بنماذج من تلك القيادات باعتبارها الأكثر شهرة وتأثيراً عبر التاريخ القديم والحديث.
يحفظ الياباني وهو في مرحلة الدراسة الابتدائية عبارة بسيطة تقول:

“أودا نوبوناقا صحن الأرز ، هديوشي خبز الكعكة ، ثم أكلها توكوقاوا إياسو”.
وما زال أيضاً طلاب المدارس اليابانية يحفظون عن ظهر قلب عبارات تقول:

▪إذا الطير لم يغني ماذا تفعل؟

▪أودا نبوناقا يقول: أقتله.

▪هيديوشي يقول : أجعله يحب الغناء.

▪توكوقاوا اياسو يقول: أصبر عليه.

وتمثل هذه العبارة المبسطة الدور التاريخي الذي قام به ثلاثة من القيادات اليابانية التي أسهمت في بناء الإمبراطورية اليابانية الموحدة. الأول هو أودا نوبوناقا الذي قام بتوحيد نصف اليابان في القرن السادس عشر بعد أن قتل أكثر من خمسين ألفاً من أعدائه. والثاني هو هيديوشي – المزارع الذي أصبح أكبر جنرالات نوبوناقا وقام بقليل من القوة والذكاء السياسي بتكملة توحيد اليابان في عام 1590. أما الثالث فهو توكوقاوا إياسو الذي أصبح حاكما عسكرياً “شوقن” في عام 1603 ومكن عائلته من حكم اليابان لمدة ثلاثة قرون. وفيما يلي نبذة موجزة عن كل من الرجال الثلاثة.

•أودا نوبوناقا- موحد نصف اليابان:

ولد أودا نوبوناقا في عام 1534 بعد أن كانت الحروب الأهلية قد مزقت اليابان في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. كانت اليابان آنذاك مقسمة إلى (66) دويلة متحاربة ، لكل منها لورد يحكمها يُعرف باسم “دايميو”. عاش نبوناقا في حصن ناقويا الذي كان يسيطر عليه والده كأحد الرؤساء الثلاثة لعائلة أودا. ومن ثم دخل في سلسلة من الحروب حتى تمكن عام 1579 السيطرة على جميع مناطق وسط اليابان وشيد قصراً من سبعة طوابق في “أزوشي” وأصبح حاكما على (31) دويلة من الدويلات اليابانية البلغ عددها 66 دويلة.

•تويوتومي هيديوشي :

ولد تويوتومي هيديوشي في عام 1536 في إحدى ضواحي ناقويا. كان والده مزارعاً يعمل في جيش “نبوناقا”. كان قبيح الشكل ، حتى أُطلق عليه القرد. توفى والده وهو في السابعة ، وقامت والدته بتربيته في ظروف معيشية صعبة. وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره  انضم إلى قوات نبوناقا ، حيث عمل  في جميع المجالات بنشاط ولساعات طويلة ، مما لفت نظر نبوناقا إليه والذي عينه عام 1570 حاكما على محافظة أومي.
. وبعد مقتل رئيسه نبوناقا  في عام 1582 حل  هيديوشي مكانه لكونه الأقوى بين قيادات جيش نبوناقا.

وقد حصل هيديوشي بهذه الخطوة على تأييد واحترام أنصار نبوناقا. في هذه المرحلة تعرضت وحدة اليابان للخطر بعد أن كانت على مقربة من الوحدة والاستقرار ، ولكن تجاوز هيديوشي المرحلة بذكائه في اختيار خليفة نبوناقا. في عام 1585 قام الإمبراطور “قويوزاي” بتعيين هيديوشي وصياً على العرش.وبصفته وصياً على ولي العرش أجرى هيديوشي مسحاً عاماً على أراضي الدولة وتسجيل مزارعها وفق وثائق رسمية سلمت للمزارعين. وبذلك أصبحت الضرائب حقاً للحكومة المركزية بعد أن كانت حقاً للورد المحلي، الذي كان يبعث الجنود والعمال للحكومة المركزية مقابل تلك الضرائب.
في أوائل عام  1590  زحف هيديوشي على رأس جيش قوامه (150) ألف رجلاً للاستيلاء على آخر المعاقل المعادية له ، والتي كان يحكمها عائلة “هوجو” وهي المنطقة المعروفة الآن بمدينة طوكيو معلناً بذلك توحيد اليابان لأول مرة.

وتبع ذلك قيام اللوردات في المناطق النائية بإعلان ولائهم لهيديوشي. قام هيديوشي بتسليم أراضي “هوجو” لحليفه القوي توكوقاوا إياسو مقابل تنازله عن محافظاته الثمانية في وسط اليابان. كان هدف هيديوشي من ذلك إبعاد توكوقاوا عن العاصمة كيوتو بانتقاله إلى الشرق ، إلا أن ذلك مكن توكوقاوا من أراضي شاسعة وغنية بالإيرادات المحلية. اتخذ توكوقاوا قصر (إدو) مقراً له لتنمو المدينة وتصبح العاصمة طوكيو فيما بعد في عهد توكوقاوا.

في السنوات الأخيرة من عهده، فكر هيديوشي في غزو الصين ، وكان في خطته السيطرة على آسيا. وكخطوة أولى لغزو الصين أمر هيديوشي بالزحف إلى كوريا. جمع هيديوشي عدداً من القوارب ونقل (150) ألف جندياً إلى كوريا. زحف الجيش الياباني حتى بلغ سيول خلال عشرين يوماً ، ثم تقدم حتى وصل الحدود الصينية. في الطريق قام اليابانيون بحرق القرى والمدن ، وقتل الكوريين. وكان الجيش يقطع الأنوف والآذان ويخللها ويرسلها إلى اليابان (تم اكتشاف مقبرة في أوكايا عام 1983 وبها أنوف مخلله لـ (2000) كوري ، وقد تم إعادة دفنها في كوريا عام 1992). كما تم اكتشاف مقبرة أخرى في كيوتو تعرف بمقبرة الأذن. ولكن تعرض اليابانيون للهزيمة في كوريا ، بينما كان هيديوشي يخطط للتقدم نحو الصين ، إذ بادر الجيش الصيني بالهجوم على اليابانيين في كوريا. حاول اليابانيون التراجع ولكن البحرية الكورية كانت قد قطعت الإمدادات التي كانت تصلهم من اليابان ، كما قام المزارعون بحرق المزارع حتى لا يجد الجيش الياباني ما يأكل ، وبذلك دخل الكوريون واليابانيون معاً في مجاعة ، مما أجبر اليابانيين على الدخول في السلم ومن ثم الانسحاب.

سُجل هيديوشي في التاريخ كنموذج لأبناء الطبقات الدنيا الذين صعدوا إلى القمة دون أن ينالوا قسطاً من التعليم. لقد حقق هيديوشي حلمه في توحيد اليابان ووضع أسساً للحكم دامت بعده لثلاثة قرون. ورغم حروبه المدمرة في كوريا ، إلا أنه ترك اليابان في وضع أفضل مما كان عليه في عهد نبوناقا.

• توكوقاوا إياسو:

ولد توكوقاوا إياسو في 31 يناير 1543 في أوكازاكي الواقعة على بعد (32) كيلومتراً جنوب شرق مدينة ناقويا الحالية. كانت عائلة توكوقاوا تعيش في قطعة أرض صغيرة تفصل بين أكبر عائلتين هما أودا وإماقاوا. وقبل أن يكمل إياسو العام من عمره انتهى التحالف الذي كان قائماً بين عائلة والده وعائلة والدته. لذا رحلت عنه والدته، ليعيش إياسو مع جدته. وعندما بلغ الرابعة من عمره اختطفته عائلة أودا بالقوة واحتفظت به رهينة.. في عام 1560 هجمت عائلة أودا بقيادة نبوناقا على عائلة إماقاوا وقتلت منها ثلاثة آلاف رجلاً، ولم يكن إياسو عندئذٍ في ساحة المعركة الشيء الذي مكنه من الهروب ، والعودة إلى مسقط رأسه في أوكازاكي حيث استعاد حصن عائلته وجمع فيه عدداً من الجنود. وبعد أن قويت شوكته دخل إياسو في مفاوضات مع نبوناقا وعقد معه صلحاً في عام 1561 ، وكانت تلك بداية تحالف امتد بين الشابين لأكثر من (20) سنة. وقد دعم الحليفان حلفهما بزواج ابن تكوقاوا من ابنة نبوناقا. في عام 1582 وبعد مقتل نبوناقا واصل إياسو تحالفه مع خلفه هيديوشي وتزوج من شقيقته زواجاً سياسياً عمقت العلاقة بين أقوى جيشين.
. بدأ تكوقاوا – بعد أن استقرت له الأمور – في دراسة التاريخ والثقافة الصينية كما استعان بعلماء من البرتغاليين والهولنديين في دراسة الجغرافيا والتعرف على العالم الخارجي لأول مرة. وفي يناير 1615 إرسل جيشاً من (200) ألف رجل لمحاصرة حصن أوساكا. أشعل جيش إياسو النار في الحصن وقتل الآلاف من الفارين بينما انتحر هيديوري، وتمكن ابن هيديوري (7 سنوات) من الهروب ، ولكن تمكن أنصار إياسو من القبض عليه وإعدامه خوفاً من تكرار الحروب في المستقبل.
توفي إياسو في الأول من يونيو 1616 ، بعد أن أوصى ابنه هيديتادا بجميع أسرار الحكم وعلاقاته بالأمراء ، وأسلوب التعامل مع كل منهم.

*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى