أخبار عربية ودولية

ياماموتو مهندس الهجوم المباغت على “بيرل هاربر”

بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*

ولد ياماموتو إسوروكو في أبريل 1884. كان ياماموتو أصغر أشقائه في مدينة صغيرة تسمى ناقوكا الواقعة على بعد 150 ميلاً شمال طوكيو وكان والده معلماً لمدرسة ابتدائية. وقد أطلق عليه والده اسم إسوروكو ، أي السادسة والخمسون ، لأنه ولد وكان والده في السادسة والخمسين من عمره.

بعد إكمال الدراسة الأولية التحق إسوروكو بأكاديمية البحرية الإمبراطورية في عام 1901، وتخرج منها في عام 1904 ليعمل في السفينة الحربية نشٌّن. في عام 1905 أثناء الحرب مع روسيا فقد اسوروكو اثنتين من أصابع يده اليسرى وواصل العمل في موقعه حتى انتهت الحرب. بعد أن أكمل إسوروكو الدراسات العليا في عام 1916 ، وافق على الانضمام لعائلة ياماموتو المشهورة بالعسكرية وحصل على اسمها ، ثم تزوج في عام 1918 من ميهاشي ريكو التي أنجبت له أربعة أطفال. وعُين ياماموتو ملحقاً في السفارة اليابانية في واشنطن في عام 1924 ومكث هناك أربعة أعوام ، تعلم فيها الكثير عن البحرية الأمريكية وصناعة الطيران واللغة الإنجليزية. عند عودته من أمريكا في عام 1928 عُين ياماموتو قائداً لناقلة الطائرات” أكاقي”. في عام 1930 اشترك ياماموتو في مؤتمر لندن للحد من سباق بناء السفن الحربية بين أمريكا ، بريطانيا واليابان ، حيث تم الاتفاق على عدم تجاوز حمولة السفن الحربية (5) أطنان لكل من أمريكا وبريطانيا و(3) أطنان بالنسبة لليابان. وقد انقسم العسكريون بين مؤيد ومعارض لهذه الاتفاقية ، لأنها أعطت اليابان حصة أقل من أمريكا وبريطانيا. وكان ياماموتو من المؤيدين للاتفاقية. وفي نفس العام عُين ياماموتو مديَراً فنياً على الطائرات التابعة للبحرية الإمبراطورية ، وبذل جهوداً كبيرة في تطوير صناعة الطيران الحربي مع شركة متسوبيشي. في عام 1934 عقد المؤتمر الثاني لنزع السلاح البحري في لندن بين أمريكا وبريطانيا واليابان. وبناءاً على ما تحقق من تقدم في القوات الجوية اليابانية طالب ياماموتو تعديل اتفاقية عام 1930 برفع حصة اليابان لتتساوى مع أمريكا وبريطانيا، ولم تجد مطالبة ياماموتو القبول. عاد ياماموتو إلى اليابان في عام 1935 ولم توكل له أية مهام رسمية بعد ذلك. وحاول ياماموتو الاستقالة من عمله والسفر إلى مونت كارلو. ولكن عدل عن رأيه عندما أتيحت له الفرصة للعمل في الطيران البحري مرة أخرى.

في عام 1936 ، عُين ياماموتو نائباً لوزير البحرية ، وحاول السيطرة على صغار الضباط الذين كانوا يتعجلون الحرب ولكن لم يتمكن من إيقاف الحرب الشاملة التي نشبت مع الصين في عام 1937. بحلول عام 1939 أصبح لياماموتو عدداً كبيراً من الأعداء في الجيش بسبب وقوفه ضد محاولات الدخول في الحرب مع الدول الأخرى. وحفاظاً على سلامته قام وزير البحرية بتعيينه في وظيفة قائد الطيران بدلاً من الوظيفة السياسية التي كان يشغلها كنائب للوزير. ركز ياماموتو اهتمامه على تدريب الطيارين على الطيران الليلي والإقلاع الطارئ وقذف الأهداف. وقد أسهم ياماموتو في تطوير مقاتلة جوية أطلق عليها اسم “صفر” لأنها دشنت في عام (2006) للديانة الشنتوية. وقام ياماموتو بالضغط على الصناعات الحربية لتحويل بعض السفن الحربية إلى ناقلة طائرات حتى أصبح لليابان (10) ناقلات في المحيط الباسيفيكي ، مقابل ثلاثة فقط لأمريكا.

في عام 1940 وقع اليابان معاهدة عسكرية مع ألمانيا النازية. وقد هاجم ياماموتو التحالف مع ألمانيا في اجتماع الجنرالات لأنها لا تملك شيئاً تقدمه لليابان، بينما التحالف معها قد يدفع الغرب إلى قطع البترول عن اليابان. ولكن لم يأخذ العسكريون بآراء ياماموتو لأن الجيش الياباني كان قد خطط مسبقاً الاستيلاء على المناطق الغنية بالبترول ، مثل بورما وملاي البريطانية وإندونيسيا التي كانت تعرف بـ “إنديز هولندا الشرقية” وغيرها من المناطق.

كان من رأي ياماموتو ، إن شن حرب ضد أمريكا وبريطانيا مغامرة وغير منطقية خاصة والجيش الياباني مازال في حرب مع الصين. كان ياماموتو يعرف تماماً حجم القوات الأمريكية وقدراتها البحرية والجوية ومدى كفاءة أسلحتها، وذلك من خلال زياراته المتكررة لأمريكا واتصاله الوثيق بالعسكرية الأمريكية. ومن أقواله المشهورة أنه قال:

“في الشهور الستة الأولى من شن الحرب على أمريكا سوف أحقق انتصارات متتالية على أمريكا وبريطانيا ، ولكن إذا استمرت الحرب بعد ذلك فإنني لا أتوقع أي نجاح”.

كان في رأي ياماموتو أن لأمريكا وبريطانيا قوات بحرية مدعومة بالطائرات القادرة على ضرب طوكيو في حالة شن الحرب على أمريكا. واقترح ياماموتو إرسال طائرات لضرب “بيرل هاربر” حيث توجد قيادات قاعدة السلاح الجوي الأمريكي. وكان يعتقد أن ضربة مباغته لبيرل هاربر سوف تجر الولايات المتحدة لعقد اتفاقية سلام والقبول باحتلال اليابان لدول آسيا. وفي يناير 1941 كتب مذكرة من تسعة صفحات تضمنت خطته في الهجوم على بيرل هاربر وبعث بالمذكرة إلى وزير البحرية كما كلف القمندان “جندا مينورا” بإعداد الترتيبات الفنية. في سبتمبر 1941 قدم ياماموتو خطته الكاملة الخاصة بالهجوم على “بيرل هاربر” أمام زملائه في الكلية البحرية. كان البعض يرى أنه من الأفضل الهجوم على السفن الأمريكية بعد مغادرتها بيرل هاربر، وكان من رأي ياماموتو أن الناقلات الأمريكية يمكنها ضرب طوكيو وأوساكا وحرق المدن اليابانية لو اتجهت قليلاً نحو اليابان ، ولذا من الضروري مفاجأتها بالضربة وهي في قاعدتها. وهدد ياماموتو بالاستقالة في حالة عدم قبول خطته. وفي نوفمبر وافقت القيادة على تخصيص ستة من ناقلات الطائرات اليابانية للهجوم على “بيرل هاربر”. حملت الناقلات  (423) طائرة وصحبتها سفينتان حربيتان و(11) فرطاقة وثلاثة كروزرات وثمانية ناقلات بترول وثلاثة غواصات. قطعت السفن اليابانية (5600) كيلومتراً دون أن تكتشف القوات الأمريكية أمرها. تولى قيادة القوة الأدميرال “ناقامو شو إشي” وبقى ياماموتو في الرئاسة على الباخرة ناقاتو في خليج هيروشيما.

في السادس من ديسمبر كانت القوات اليابانية على بعد (400) كم شمال” بيرل هاربر” وفي صباح السابع من ديسمبر 1941 تناول (353) طياراً طعام الإفطار وكأساً من الخمر الياباني (Sake) وأدوا صلاة الديانة الشنتوية ورددوا معاً كلمة “بانذاي” التي تعني (عشرة آلاف سنة للإمبراطور) وصعدوا على الطائرات المكلفة بالضربة الجوية وعددها (183) ، ثم تحركت الطائرات جنوباً لتقطع مسافة مدتها حوالي الساعتين قبل بدء الضربة. في السابعة صباحاً رصدت الرادارات الأمريكية عدداً من الطائرات على بعد (220) كم ، وأبلغت الرادارات رئاستها ، ولكن الضابط المسئول في القيادة اعتقد أن تلك الطائرات ما هي إلا طائرات أمريكية تقوم بطلعات تدريبية. في الساعة السابعة والنصف أعلن الطيارون اليابان كلمة “تورا” ، “تورا” ، “تورا” التي ترمز إلى نجاحهم في تحقيق المفاجأة وفقاً لخطة ياماموتو. وبعد لحظات بدأ القذف وأعلن الأدميرال الأمريكي حقيقة القذف الياباني. في دقائق تمكن السرب الأول (183) طائرة والسرب الثاني (170) طائرة ، من إغراق (4) سفن أمريكية وتدمير أربعة سفن أخرى وعشرات البواخر المختلفة. تم تدمير (188) طائرة أمريكية وإتلاف(951) طائرة أخرى. أدت الضربة المفاجئة إلى مقتل (3042) جندياً أمريكياً ومات (1100) جندي على ظهر السفينة الحربية أريزونا عندما فجرت مستودعات الذخيرة. ولم يفقد اليابانيون سوى (29) طائرة. ولكن أخطأ الأدميرال ناقامو في عدم القيام بضربة ثالثة للقضاء على ورش الصيانة ، واكتفى بالنصر الذي تحقق حتى لا يفقد المزيد من طائراته. وقد مكن عدم تدمير ورش الصيانة الجيش الأمريكي من إعادة بناء السفن خلال عام فقط . لم يتمكن اليابانيون من ضرب الناقلات الأمريكية الثلاثة التي لم تكن في بيرل هاربر آنذاك، ولم يحاول ناقامو البحث عنها. ورغم إلحاح زملاء ياماموتو عليه بتوجيه ناقامو للقيام بضربة ثالثة ، رأى ياماموتو عدم التدخل احتراماً لتقديرات القائد الميداني.

في الاحتفال بالنصر كان ياماموتو صامتاً لأنه كان يتوقع عواقب وخيمة لعملية بيرل هاربر. وقد كتب فيما بعد قائلاً: الحروب والانتصارات الراهنة سوف تكلفنا الكثير في المستقبل. وكما توقع ياماموتو من قبل واصل اليابانيون انتصاراتهم المتعجلة باحتلال هونج كونج ، مالاي ، سنغافورة ، الفليبين ، بورما وإندونيسيا. في نفس الوقت كان هناك (135) مليوناً هم سكان الولايات المتحدة الأمريكية قد بدءوا العمل لهزيمة الإمبراطورية اليابانية.

كان من رأي ياماموتو أن بداية الحرب تعني أن الوقت أصبح قصيراً أمام اليابان. وعلى البحرية اليابانية أن تتقدم للاستيلاء على القواعد البحرية في ميدواي القريبة من هاواي والتي تمكنه من ضرب مصانع الأسلحة في كاليفورنيا. ومرة أخرى وجد ياماموتو نفسه أمام معارضة العسكريين الذين كانوا يرون أن التقدم نحو القواعد الأمريكية مغامرة خاسرة. وكاد أن يتقدم ياماموتو باستقالته لولا القذف الجوي الذي شنته الطائرات الأمريكية على طوكيو في أبريل 1942، الشيء الذي جعل العسكريين يعدلون عن رأيهم والوقوف إلى جانب ياماموتو.

تم تجهيز قوات بحرية للهجوم على القواعد الأمريكية في “ميدواي” من (160) سفينة تضم أربعة ناقلات طائرات و(11) سفينة حربية و(53) مدمرة و(20) غواصة وكاسحة ألغام، علاوة على ناقلات الجنود والمؤن. وقد تولى ياماموتو القيادة بنفسه في هذه المرة ، وقد اتخذ موقعه في السفينة الحربية ياماتو التي كانت تعتبر أكبر سفينة حربية في العالم آنذاك ، بطولها البالغ طول ثلاثة ميادين كرة قدم. تحركت القوات اليابانية وفق ممرات سرية تكفل لها السرية والمفاجأة كما تحقق في حملة بيرل هاربر. ولكن لم يدرك ياماموتو أن البحرية الأمريكية تمكنت من اختراق اتصالاته وكشف خططه الهجومية. وعلى ضوء المعلومات التي توفرت للقوات البحرية الأمريكية قام قائدها الأدميرال “شيستر نيمتس” بإبعاد ناقلات الطائرات الأمريكية الثلاثة أنتر برايس ، هورنبت ويوركتاون عن قاعدة ميدواي ، لتبقى بعيدة عن مرمى نيران السفن اليابانية.

في الرابع من يونيو 1942 قام السرب الأول من الطائرات اليابانية المكون من (108) طائرة بالهجوم على قاعدة ميدواي واستطاعت أن تدمر نصف القوة الجوية الصغيرة التي كانت في القاعدة. وكانت الخطة الأمريكية تعتمد على تسديد ضربتها بعد عودة الطائرات اليابانية ، وبالتحديد أثناء قيامها بإعادة التزود بالوقود. وبالفعل قامت القوات الأمريكية بإرسال (41) طائرة لقذف السفن اليابانية. ودارت معارك قوية خسر فيها اليابانيون ناقلات الطائرات الأربعة و(332) طائرة وأكثر من (2500) رجلاً ، أي ما يعادل نصف القوة الجوية ، وذلك خلال يوم واحد. بينما فقد الأمريكيون ناقلة طائرات و(147) طائرة و(307) رجلاً ، وقد احترق عدد من البحارة داخل سفنهم من الجانبين. وعندما أدرك ياماموتو أن ناقلاته الثلاثة قد احترقت ، أمر بالهجوم على قاعدة ميدواي ، ولكن في المقابل قرر القائد الميداني للبحرية الأمريكية الأدميرال إسبروانس عدم المخاطرة مرة أخرى وآثر الانسحاب شرقاً ، عندها أدرك ياماموتو أن الحرب قد بلغت نهايتها وألغي الهجوم على ميدواي. وتحمل ياماموتو مسئولية الخسائر ولم يكن يقبل أن يلام الأدميرال ناقامو القائد الميداني المباشر. وقد أدّت خسارة اليابان في هذه المعارك إلى تفرغ أمريكا لمواجهة ألمانيا.

انتقل ياماموتو بالبحرية اليابانية إلى جزر سليمان وجزر “قوادلاكانال” توطئه لاحتلال غينيا الجديدة ، وقد واجه ياماموتو البحرية الأمريكية للمرة الثالثة ، حيث تمكن من إغراق أربعة من سفن الحلفاء وستة من المدمرات وفرض سيطرته على البحر. ثم أبحر ياماموتو جنوباً لإنشاء قيادة جديدة في جزر كارولاين على بعد (2250) كم شمالي “قوادلاكانال” حيث اشتبكت جيوش الحلفاء مع البحرية اليابانية (34) مرة وقد أغرقت في تلك المعارك (65) سفينة من الجانبين. وقد قتل في تلك المعارك (24) ألف جندياً من الجانب الياباني و(1592) جندياً من الجانب الأمريكي وكانت وفاة معظم الجنود بسبب الجوع والمرض.

في عام 1943 وضح لياماموتو أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر قوة من اليابان ، ولذلك قرر الانسحاب ، وبدأ في سحب (13) ألف جندياً من جنوده سراً. وفي 18 إبريل 1943 وبينما كان ياماموتو في طريقه إلى “بوقينغل” لتفقد قواته في الخطوط الأمامية ، تمكنت البحرية الأمريكية من رصد تحركاته. وعندئذٍ أمر الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بالهجوم على طائرة ياماموتو وإسقاط طائرته في الأدغال. وفي 5 يونيو 1943 شيع مليون ياباني جنازة ياماموتو في طوكيو. ودفنت رفاته في موقعين ، في مسقط رأسه في ناقوكا وفي طوكيو بجوار الأدميرال توقو هيهاشيرو الذي أغرق ناقلة الطائرات الروسية عام 1905.

ولم يكن اغتيال ياماموتو نهاية الحرب اليابانية الأمريكية التي تواصلت بعد احتلال الولايات المتحدة الأمريكية لجزر آيوجيما وأوكيناوا الواقعة على بعد (1600) كم من طوكيو ، حيث قتل اليابانيون (6812) جندياً أمريكياً وأصابوا (19089) منهم. وتتابعت بعد ذلك العمليات الانتحارية للطيارين اليابانيين المشهورة برياح الآلهة “كامي كاذي” الذين شنوا (3300) عملية على القوات الأمريكية ، مما أدى إلى مقتل (12513) جندياً أمريكياً وإصابة (36000) آخرين. وفي المقابل قتل (150) ألف يابانياً في الجزيرة كان معظمهم من المدنيين. ولم تنتهي الحروب إلا بعد استسلام الإمبراطور الياباني هيروهيتو وقبوله إعلان بوتسدام الذي أصدره الرئيس الأمريكي هاري ترومان في 26 يوليو 1945 ، على أثر إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما.

*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى