أخبار عربية ودولية

تاناكا كاكوإي.. أكثر الرؤساء إسهاماً في النهضة الصناعية اليابانية

بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*

يعتبر تاناكا كاكوإي أقوى رؤساء اليابان في العصر الحديث وأكثرهم إسهاماً في النهضة الصناعية اليابانية التي برزت بوضوح في عهده الافتراضي الذي امتد من قبل عام 1972 وامتد حتى عام 1985. كان تاناكا رئيساً لوزراء اليابان لمدة عامين فقط أي ما بين 1972 و1974 إلا أنه ظل حاكماً من وراء الكواليس حتى عام 1985.

ولد تاناكا في 4 مايو 1918 في محافظة نيقاتا الواقعة على بعد (240) كم شمال طوكيو. كان تاناكا الابن الوحيد وسط شقيقاته السبعة. دخل تاناكا في مشاكل مع معلميه في مرحلة الدراسة الأولية ، إلا أنه تجاوز ذلك بقدرته على الحديث وفصاحة لسانه. عمل تاناكا وهو في الخامسة عشرة من عمره كعامل بناء. ثم انتقل إلى طوكيو ليعمل ويدرس الهندسة والمعمار ليلاً. وعندما بلغ التاسعة عشرة أسس شركته الخاصة لأعمال البناء. ولكن في عام 1936 انتهت شركة تاناكا بسبب اختياره للخدمة العسكرية في منشوريا. عاد تاناكا من الحرب بسبب المرض بعد عامين ليتزوج من هانا ساكاموتو ابنة أحد كبار المقاولين. وفي عام 1943 استولى تاناكا على شركة البناء التي كان يملكها والد زوجته وأطلق عليها اسم “تاناكا للهندسة المدنية” ، وبدأ يعمل في المقاولات الحكومية حتى كسب عطاءً كبيراً لنقل مصانع خاصة بالجيش الياباني من اليابان إلى كوريا. ولكن انتهت الحرب بعد أن حصل تاناكا على جزء من تكاليف العقد ولم ينفذ المشروع – ويقال أنه أعاد جزءاً من المال واحتفظ لنفسه بجزءٍ منه، لذا يطلق عليه البعض صفة ثري الحرب.

في عام 1946، ومقابل تبرعه بمليون دولار لحزب التقدم ، طلب منه الحزب الترشيح باسمه للبرلمان عن دائرة نيقاتا. ورغم إنفاقه أموالاً طائلة في الدعاية الانتخابية خسر تاناكا نتائجها. في العام التالي افتتح تاناكا فرعاً لشركته في نيقاتا وسخر موظفيه للعمل في الدعاية الانتخابية وكسب مقعداً في البرلمان وهو في التاسع والعشرين من العمر ، كأصغر نائب في البرلمان الياباني.

في عام 1948 تحول تاناكا إلى حزب رئيس الوزراء يوشيدا شيقيرو الذي كان يُعرف بالحزب الحر ، الشيء الذي مكنه من جلب الأموال والخدمات الحكومية إلى محافظته نيقاتا. قام تاناكا بتمويل انتخاب رئيس الوزراء يوشيدا وجمع التبرعات لصالح حزبه وذلك مقابل حصوله على عقود تنفيذ المشروعات الحكومية الكبيرة في بناء الطرق والجسور والأنفاق. وفي عام 1949 كسب تاناكا الانتخابات في دائرته رغم وجوده في السجن متهماً في جريمة رشوة ، برئ منها لاحقاً.
في عام 1952 انتخب تاناكا للمرة الثانية بنسبة عالية من الأصوات. بدأ تاناكا ينفق أموالاً طائلة في محافظته وذلك بالإسهام في المناسبات الاجتماعية ومساعدة سكان دائرته الانتخابية وجلب الدعم الحكومي لتطوير المنطقة ، حتى أصبحت محافظة نيقاتا من أكثر محافظات اليابان حصولاً على الخدمات الحكومية بحلول عام 1962. وتمكن تاناكا من تنظيم أنصاره في شكل دقيق جعل الآلاف من قيادات الحملات الانتخابية تدين له بالولاء.

في عام 1957 أصبح تاناكا وزيراً للمواصلات كأصغر وزير ياباني منذ 1890. وفي عام 1960 استطاع تاناكا – بصفته من أكثر الممولين للحزب الديموقراطي الحر – أن يوحد بين كتلته التي كان يقودها ساتو إيساكو وكتله إكيدا حياتو. ومقابل نجاح تاناكا في توحيد الكتلتين الرئيسيتين في الحزب الديموقراطي الحر حصل على منصب وزير المالية. وقد اشتهر تاناكا من خلال إدارته القوية وقراراته الحاسمة حتى أطلق عليه “البلدوزر الآلي”. اكتسب تاناكا جميع القيادات في الخدمة المدنية وقام بدعم كبار الموظفين ورجال الأعمال بقراراته الفورية ، الشيء الذي مكنه من تنفيذ الشعارات التي وعد بها في الانتخابات. وبالتحكم في وزارة المال ، أصبح تاناكا يحوِّل عقود العمل الحكومي للشركات الموالية له والداعمة لحزبه ، مما مكنه من جمع أموال طائلة. وهكذا أثرى تاناكا نفسه والموالين له وأصدقاءه من خلال شراء وبيع الأراضي وفقاً لاتجاهات التنمية التي انتظمت البلاد في عصره. قام تاناكا ببيع أراضي في قلب العاصمة طوكيو لأكبر ثلاثة صحف يابانية حققت له عائدات كبيرة وكفلت له ولاء الصحف الرئيسة لعقد من الزمان. في انتخابات 1964 جمع تاناكا 1.7 مليون دولاراً لانتخاب ساتو إبساكو رئيساً للوزراء. وكان ساتو سعيداً بجهود تاناكا في تمويل الحزب لذا طلب منه ساتو ترك وزارة المالية والتفرغ لمالية الحزب . وهكذا أصبح تاناكا أميناً عاماً للحزب الديموقراطي الليبرالي. ومن ثم جمع بين أمانة الحزب ووزارة الصناعة والتجارة الخارجية. وخلال توليه وزارة الصناعة والتجارة الخارجية ألف تاناكا كتابه الموسوم – بناء اليابان الجديد: إعادة تنظيم الأرخبيل الياباني ، الذي ضرب رقماً قياسياً في التوزيع . اقترح تاناكا في كتابه المذكور، إنشاء (60) مدينة مليئة بالحدائق التي تخفف من التلوث البيئي ، (11800) ميلاً من الطرق السريعة وخطوط القطارات السريعة ومئات الجسور والأنفاق. ولتمويل المنشآت العامة المقترحة والتي تبلغ تكلفتها 1.5 تريليون دولاراً، اقترح تاناكا ما يعرف بالعجز في الموازنة. وكانت النظرية التي تقول: “إذا كنا بصدد بناء دولة سعيدة وجميلة من الضروري توزيع التكلفة توزيعاً عادلاً بين الأجيال”.

في عام 1972 تقاعد ساتو عن رئاسة الوزراء وكان تاناكا ومنافسه فوكودا هما المرشحان لخلافته. وفي يوليو 1972 اكتسح تاناكا انتخابات رئاسة الحزب الديموقراطي الليبرالي بما لديه من رصيد كبير من الموالين له داخل كتلته وخارجها. وبفوزه برئاسة الحزب انتقل إلى رئاسة الوزارة.

كرئيس للوزراء قام تاناكا بتسخير إمكانات هائلة لمحافظته نيقاتا ، وخصص لها مبلغ خمسة بليون دولار لربطها بالعاصمة طوكيو عن طريق القطار السريع ، وشيد طريقاً سريعاً وجامعة ومحطة للطاقة النووية ، الشيء الذي ضمن له ولاء سكان نيقاتا طوال حياته. كانت قمة إنجازات تاناكا هي رحلته إلى بكين في سبتمبر 1972 التي فتحت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

في عام 1973 بدأت شعبية تاناكا تتراجع وبدأت الصحف تتناول تجاوزاته المالية والشبكات الاقتصادية والتنظيمية التي أنشأها للسيطرة على مقاليد الأمور. وبناءً على الضغوط المتزايدة وتراجع التأييد الشعبي له قرر الاستقالة عن رئاسة الوزارة في 26 نوفمبر 1974 ، وخلفه ميكي تاكيو ، ولكن ظل تاناكا بإمكاناته المالية قائداً للحزب الحاكم ومسيطراً على كتلته التي كبر حجمها. في عام 1976 ، كشفت التحقيقات التي أجراها مجلس النواب الأمريكي مع رئيس شركة لوكهيد العالمية عن رشوة مقدارها 1.5 مليون دولار قدمت لرئيس الوزراء الياباني تاناكا مقابل شراء الخطوط الجوية اليابانية طائرات شركة لوكيد. عندئذٍ أمر ميكي بالتحقيق مع تاناكا. وفي يوليو 1976 قام النائب العام باعتقال تاناكا والتحقيق معه بتهمة الحصول على الرشوة. بعد التحقيق تم الإفراج عن تاناكا بالكفالة المالية ، ولكن بطأ إجراءات المحاكمة في النظام القضائي الياباني جعل القضية معلقة لأكثر من سبعة أعوام. استقال تاناكا من الحزب الديمقراطي الليبرالي وظل عضواً مستقلاً في البرلمان. وتكرر فوزه الساحق في انتخابات 1976 ، 1979 ، 1983 ، 1986. ظل تاناكا يقود كتلته داخل الحزب الحاكم من وراء الكواليس. ولم يكن في مقدور أي سياسي أن يتولى رئاسة الوزارة إلا بعد موافقة تاناكا. لذا كان تاناكا يختار من يشاء من أعوانه القدامى ليكون رئيساً للوزارة. جاء أولاً بفوكودا للتخلص من ميكي الذي كان قد أمر بالتحقيق معه ، ثم سوزوكي وناكاسوني ياسوهيرو الذي حقق الاستقرار وقدراً من الثقة. وكانت كتلة تاناكا تُحظى دائماً بمعظم الحقائب الوزارية. وقد عرف تاناكا في تلك الفترة ب “صانع الملوك” أو حاكم الظل Shadow Shogun . وكانت العامة تطلق على حكومة ناكاسوني اسم “تناكاسوني” لشدة تأثير تاناكا عليها. في عام 1983 صدر الحكم الابتدائي بإدانة تاناكا ، لتدخل القضية مرحلة الاستئناف لأربعة أعوام أخرى. طالب البرلمان استقالة تاناكا من البرلمان إلا أنه رفض مما أدى إلى حل البرلمان. وبإجراء انتخابات جديدة فقدت الكتل البرلمانية بعض مقاعدها بينما ظلت كتلة تناكا هي الأقوى. وتولى رئاسة الوزارة أحد أعوان تاناكا وهو تاكيشتا نوبورو ، ليظل تاناكا رغم تدهور حالته الصحية ممسكاً بخيوط الحكم. في 16 ديسمبر 1993 ، توفى تاناكا قبل أن يصدر الحكم النهائي ضده. وقبل وفاة تاناكا بقليل ترشحت ابنته ماكيكو في دائرة والدها الانتخابية لتفوز بها وتصبح الوريثة لمقعد والدها في البرلمان. وتلك عادة معروفة في اليابان إذ تشير الإحصاءات الحديثة أن 74% من أعضاء مجلس النواب والشيوخ يتوارثون المقاعد البرلمانية أبا عن جد .

*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى