أخبار عربية ودولية

شركة سوني ولدت ونمت بين أحضان رجلين هما إبوكا ماسارو وموريتا أكيو

بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*

تعتبر شركة سوني أكثر شركات العالم إبداعاً وابتكاراً في مجال الإلكترونيات خلال القرن العشرين. كانت هي الأولى في صناعة الراديو الترانزيستور وأجهزة التسجيل والتلفاز الملون المحمولة ، وكذا أجهزة الفيديو “كامكوردر” ومسجلات الأقراص المدمجة. من بداية متواضعة في عام 1946 قفزت شركة سوني إلى إحدى القمم الصناعية في القرن العشرين لتضم (170) ألف عاملاً وتقدر مبيعاتها الأسبوعية ببليون دولاراً ويأتي الاسم التجاري “سوني” في المرتبة الثانية بعد كوكاكولا من حيث الشهرة العالمية والانتشار.

ولدت ونمت شركة سوني بين أحضان رجلين هما “إبوكا ماسارو” (1908-1997) وموريتا أكيو. كان إبوكا مهندساً عبقرياً منح شركة سوني الكثير من مفاتيح التقنية ، ولكن صديقه موريتا هو الذي انتقل بشركة سوني إلى العالمية، والمكانة الاقتصادية التي تتمتع بها الشركة اليوم.

ولد موريتا أكيو في 26 يناير 1921 في مدينة ناقويا ، وكان والده تاجراً ثرياً. وكانت عائلة موريتا تعمل في مجال صناعة الخمور وفول الصويا. نشأ موريتا في منزل فاخر يضم ملعباً للتنس ويعمل فيه عدد من الخدم والسائقين ، وذلك على خلاف ما كان عليه اليابانيون في تلك الفترة. لما بلغ موريتا العاشرة من عمره بدأ والده يأخذه إلى اجتماعات رجال الأعمال ويعلمه التجارة وقراءة التقارير الاقتصادية. كان موريتا منذ صغره يميل إلى الفيزياء أكثر من الأعمال التجارية ، وقد ولدت لديه تلك الرغبة عندما أحضر والده مسجلاً كهربائياً إلى المنزل ، وبدأ يفكر بتطوير ذلك الجهاز. وكان موريتا يقرأ المجلات المتخصصة في الإلكترونيات ويحاول صناعة المسجلات. ترك الدراسة في الثانوية وبدأ دراسة اللغة الإنجليزية والصينية. وعندما نمت معرفته بالفيزياء والرياضيات التحق بجامعة أوساكا في عام 1940. أثناء دراسته أعد موريتا بحثاً للبحرية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية ، وبعد تخرجه في عام 1944 التحق بالعمل بالبحرية كباحث في مجال البصريات. تعرف موريتا على المهندس “إبوكا ماسارو” الذي كان يعمل في البحرية ونشأت بينهما صداقة لاهتمامهما المشترك في تأسيس شركة خاصة للصناعات الإلكترونية. كان “إبوكا” أكبر سناً من موريتا إذ تخرج من كلية العلوم في جامعة واسيدا عام 1933، وبعد أن فشل في امتحان العمل في شركة توشيبا التحق بالعمل في شركة أخرى لصناعة الراديو وأسهم في تزويد البحرية اليابانية بأجزاء الرادارات وأجهزة الفولتميتر.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية انتقل إبوكا وموريتا إلى طوكيو وشرعا في إنشاء عملاً خاصاً تحت الاسم التجاري “طوكيو تسوشن كوقيو” أو اختصاراً “توتسوكو” والتي أعيدت تسميتها لتصبح “سوني” في عام 1958.

في عام 1946 وبناءً على طلب “إبوكا” وافق والد موريتا إخلاء طرف الأخير من العمل في مصانع الخمور التي تملكها الأسرة ليتفرغ العمل مع إيوكا في شركة توتسوكو (سوني حالياً). وذهب والد موريتا أبعد من ذلك بالمساهمة في تلك الشركة الناشئة، وما زالت شركة موريتا للخمور تملك 9% من أسهم شركة سوني. بدأت توتسوكو بصناعة الفولتميتر والمحولات التي ترفع قدرة الالتقاط في الراديو. عاش إبوكا وموريتا في قلق شديد لأنهما لم يتمكنا من التوصل إلى اختراع جديد يفتح لهما أبواب النجاح. في عام 1948 ، التقى إبوكا وموريتا صدفة بأحد الجنود الأمريكيين يحمل مسجلاً يستعمل شرائط ممغنطة لم يسبق لهم رؤية مثلها، وقررا أن تكون شركة توتسكو صاحبة السبق في صناعة المسجلات اليابانية التي تعمل بالشرائط الممغنطة. لم يكن من الصعب على إبوكا وموريتا صناعة المسجل ولكن كانت الصعوبة في صناعة الشريط الممغنط للتسجيل. لم يكن لديهم البلاستيك وكانت هنالك صعوبات تحول دون الاستيراد بعد نهاية الحرب الثانية. حاول موريتا استخدام مادة السلوفان ووجدها لا تصلح. ثم لجأ إلى الورق المطلي بثاني أكسيد الحديد. وتمكنت شركة تتسوكو من صناعة (50) شريطاً زنة كل منها (75) رطلاً وتقدر قيمة الشريط بخمسة آلاف دولار. وعلى عكس التوقعات لم تجد الشرائط رواجاً في السوق. قرر موريتا أن يتولى بنفسه عمليات التسويق واتجه إلى الأندية الليلية التي تبث الأغاني لروادها وتمكن من إقناعها بشراء بعضاً من إنتاج الشركة ، وقامت المحكمة العليا بشراء (20) وحدة لأغراض سجلات القضايا. وكذلك رجال الشرطة ، ومدارس اللغات.
في عام 1951 تمكنت الشركة من تطوير المسجل بإنتاج نوع أقل وزناً وأقل تكلفة. ووجد هذا النوع الجديد رواجاً في المدارس . في عام 1952 علم “إبوكا” أن الشركة الشرقية للإلكترونيات ترغب في بيع ترخيص جهاز ترانزيستور صممه مهندسو الشركة. وبعد التشاور مع موريتا اتفقا على شراء الترخيص بقصد تطوير الاختراع إلى حجم أصغر ، أي بحجم جيب القميص. سافر موريتا إلى أمريكا للتفاوض مع الشركة الشرقية للإلكترونيات. وفي العام التالي قام “إبوكا” و”إواما كاذو” بزيارة لمصانع الشركة الشرقية في الولايات المتحدة الأمريكية للإطلاع على أداء المختبرات. وقام “إواما” خلال تلك الزيارة بكتابة تقارير دقيقة ومفصلة حول الصناعة الأمريكية. وكان يبعث يومياً رسالة من عشرة صفحات إلى اليابان ليقوم مهندسو الشركة بدراسته أولاً بأول. بنهاية عام 1954 تمكنت شركة تتسكو من إنجاز صناعة الترانزيستور بالحجم الصغير الذي كان يحلم به موريتا ، إلا أنه فوجئ بأن شركة تكساس للمعدات قد أنتجت أول راديو ترانزيستور لصالح شركة ريجنس التي رأت عدم إنتاج كميات كبيرة منه. وهذا ما منح الفرصة لشركة توتسكو لتكمله إنتاج اختراعه بحجم أقل وتكلفة أقل. قبل طرح الترانزيستور الجديد أدرك موريتا أن الاسم التجاري “توتسوكو” لا يجد القبول لدى الكثيرين خاصة الأجانب منهم. وبدأ البحث عن اسم تجاري يسهل نطقه بواسطة مختلف الجنسيات دون أن يكون له أي معنى في أية لغة من اللغات. وأخيراً وجد موريتا كلمة ( Sonus) اللاتينية والتي تعني الصوت(Sound)  وبما أن لأعمال الشركة علاقة بالصوت فقد رأى موريتا إطلاق اسم (سوني) على الترانزيستور الجديد. وقام موريتا بتسويق الترانزيستور تحت هذا الاسم التجاري والذي اعتمد فيما بعد اسماً بديلاً لشركة “توتسكو” في عام 1958.

في الخمسينات قامت شركة سوني ببيع (1.5) مليون راديو ترانزيستور في الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت استراتيجية “موريتا” تعتمد على البدء بغزو السوق الأمريكي والعودة بالسمعة إلى اليابان ثم التوجه بإنتاجه إلى أوروبا والدول الأخرى. وهكذا تقدمت “سوني” على غيرها من الشركات باختراع أف.أم. ترانزيستور في عام 1958 والتلفاز الترانزيستور في عام 1960 والفيديو الترانزيستور في عام 1961. لقد قام موريتا بكل هذه الخطوات دون إجراء دراسات جدوى لأنه كان يتعهد ويخطط لقيادة السوق بالابتكار وتقديم الجديد المقنع، دون أن يسأل الناس عما يريدون. كان موريتا يدعو للمساواة بين الموظفين وإعطاء الجميع فرص متكافئة، كما كان لا يعير اهتماماً للمستوى التعليمي ، متى أثبت الموظف جدارته في العمل خلال أول عامين له بالشركة. وقد ألف كتاباً في هذا السياق تحت عنوان Never Mind School Records  الذي باع منه (250) ألف نسخة.

في عام 1963 انتقل موريتا بأسرته إلى نيويورك وأمضى سنوات ينتقل بين طوكيو ونيويورك لإقامة المعارض وبث الدعاية وتنظيم حملات الترويج لشركة سوني وذلك للحصول على مساهمين من غير اليابانيين.

في عام 1972 افتتحت شركة سوني أول مصنع لها في أمريكا وهو مصنع تليفزيونات ترنتون في كاليفورنيا. وفي عام 1974 افتتحت مصنعاً في “ويلز” ومن ثم انتشرت مصانعها في “الاباما” ، المانيا، سنغافورة ، بانكوك ماليزيا وغيرها من أنحاء العالم.
اليوم تنتج شركة سوني (50%) من إنتاجها خارج اليابان. وكانت سوني بذلك رائدة العولمة الاقتصادية. ومع انتشار أعمال سوني في مختلف أنحاء العالم أصبح موريتا سفيراً غير رسمياً لليابان يتحدث في المحافل الدولية ويدافع عن السياسات الاقتصادية لليابان وكان يردد دائماً قوله: “نحن لا نغزو ، ولكن نقدم لكم ما تحتاجون”. وكان يرد على الذين ينتقدون ظاهرة عدم نقل وتبادل اليابانيين للتكنولوجيا مع غيرهم قائلاً: “نحن نشترك في دورياتكم العلمية ونقرأ أبحاثكم ، فهل أنتم تقرءون ما نكتب؟ إذًا ، كيف يتم نقل وتبادل التكنولوجيا؟”

في عام 1975 شرعت سوني في تسويق ابتكارها الجديد فيديو بتاماكس الذي وجد إقبالاً في البدء، ولكن تراجعت مبيعات بتاماكس في عام 1976 عندما استحدثت شركة ماتسوشيتا نظام الفيديو المنزليVHS  الذي كان أقل سعراً وأكبر سعة (ساعتين). وبينما كانت سوني تحتكر اختراع بتاماكس قامت ماتسوشيتا بالترخيص لشركات أخرى لإنتاج فيديو VHS  مما سبب خسائر كبيرة لسوني في الثمانينات. ويعتبر عدم تقدير موريتا لمدة شرائط الباتيماكس أكبر أخطائه. ولكن لم تدم الانتكاسة طويلاً بسبب الاختراعات الجديدة التي جاء بها مهندسو الشركة بإنتاج “الووكمان” في عام 1979 ، ومن ثم إنتاج الشريط البلاستيكي 3.5 للحاسب الآلي الذي أصبح الحجم السائد إلى يومنا هذا. وفي نفس العام  بدأت سوني بالتعاون مع شركة فليبس  في إنتاج  الأقراص المدمجة والأجهزة التي تعمل بالليزر. وقام موريتا الذي أصبح رئيساً لمجلس الإدارة في عام 1982 بعد تقاعد “إبوكا” بترويج هذا النوع من أجهزة التسجيل وأقراصها المدمجة بين كبار المطربين الذين اقتنعوا بجودتها، وبدءوا بدورهم مطالبة شركات إنتاج الموسيقى على استعمال هذا النوع من الأقراص. حققت شركة سوني أرباحاً طائلة من وراء الأقراص المدمجة بفضل استفادتها من التجربة الفاشلة مع شرائط “بتاماكس” وكذا بفضل ما قام به موريتا ورئيس الشركة الجديد آنذاك” أوقا” من جهود لدفع الشركات المنتجة نحو إنتاج أعمال فنية تسجل على تلك الأقراص والتي حلت اليوم تماماً مكان كافة أنواع الشرائط البلاستيكية.

في عام 1988 قررت شركة سوني شراء شركة CBS للتسجيل – أكبر الشركات العاملة في مجال الإنتاج والتسجيل في العالم- بمبلغ (2) بليون دولاراً والتي تضم بين عملائها نجوم الفن مثل مايكل جاكسون ، بربارا استرايساند وبروس اسبرنقستين. وأعادت سوني تسمية شركة CBS لتصبح شركة سوني للموسيقى والترفيه. في ضوء النجاح الذي حققته شركة سوني للموسيقى أقدمت شركة سوني على مغامرة أخرى في عام 1989 بشراء شركة كولومبيا للصور الترفيهية ، إحدى أكبر استوديوهات هوليود التي تملك أكثر من (3500) فيلماً سينمائياً ، و(40) ألف مسلسلاً تلفزيونياً ، الشيء الذي أزعج الصحافة والرأي العام الأمريكي والخوف على ما سمي بالغزو الياباني. وقد ضاعف هذا الشعور بالخوف صدور كتاب موريتا المعنون The Japan Can Say No.
دخلت سوني مغامرة أخرى في التسعينات بالعمل على توسيع استثماراتها في مجال الدمج بين الإلكترونيات والموسيقى من خلال شركة سينما هوليود التي أنفقت فيها سوني (5.6) بليون دولاراً. ورغم الخسائر الأولية التي تكبَّدتها شركة سوني في هذا المجال مازالت تبذل المساعي.

رغم النجاحات التي حققتها شركة سوني وقائدها موريتا كان الكثيرون ينظرون لموريتا كمدير متهور ويميل كثيراً للغرب، ولكن مع مرور الزمن اقتنع الكثيرون بنظريات موريتا الاقتصادية وتوجهاته العملية. وقد اكتسب موريتا احتراماً كبيراً توج باختياره نائباً لرئيس مجلس إدارة أكبر وأقوى المنظمات الاقتصادية في اليابان المعروفة باتحاد المنظمات الاقتصاديةKeidanren . في عام 1993 أصيب موريتا بجلطة أجريت له عملية جراحية أقعدته عن العمل.

*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى