عدوانية ٌعاطفية

بقلم / د. ولاء قاسم

عندما نتحدث عن العدوانية، قد يتبادر إلى ذهنك صورة إنسان بربري، همجي السلوك ، يستخدم كلماتٍ كالرصاص تخترق جدار الصمت. هذه هي العدوانية الصريحة، شكل واحد من أشكال العدوانية . لكن هناك أوجه أخرى، خفية ومنخفضة الدرجة ،وهي عدوانية مستترة تزدهر في المجتمعات المتحضرة، وتستحق منا التأمل.

تظهر العدوانية المستترة في العلاقات الشخصية وبيئات العمل، كسمٍ يقطر بهدوء ليزرع الشكوك ويفتك بالروابط. صاحبها بارع في الغموض والتملص، مما يجعلك عاجزاً عن التأكد من هجماته. هذا السلوك يزرع فيك الحيرة والارتباك، فتبدأ في التساؤل: هل أنا أختلق هذه العدوانية ، أم أنني أضخم الأمور؟ يستغل صاحبها ارتباكك وعدم يقينك ليمارس السيطرة عليك وفرض الإرادة ويتملص من العقاب.

تشكل الإتكالية العاطفية صورة للعدوانية الخفية ، التي تستخدم العواطف كوسيلة للتلاعب النفسي. حيث تجد شخصاً يهتم بك بشغف، يشاركك تفاصيل حياتك، حتى تلك المملة منها ، يدعمك ويصغي إليك بكل حواسه . تصبح متكلاً على ما يوفره لك من اهتمام وتأمين عاطفي، لكن فجأة، يطرأ برود على عواطفه تغيب ملامح الاهتمام وتتحول العلاقة المتقدة الى علاقة رمادية باهتة !!

تشعر بالقلق، وتعتقد أنك أزعجته، فتسعى جاهداً لإرضائه، إلا أنه يستمر في إعراضه. تصارع لاستعادة تبادلية العلاقة وحرارتها ، لتدرك تدريجياً انقلاب القوة المحركة لها وأن الأدوار قد تبدلت فأنت الأن من تقوم بملاحقته ومحاصرته باهتمامك . فتجد نفسك أسيراً في فخ علاقة اعتمادية تسعدك يوماً، وتعذبك عمراً .

ولا يندُر استعمال اسلوب الإتكالية العاطفية في العلاقة بين الأم خاصة واحيانا الوالدين والأبناء.
فكثير من الأمهات يغدقن الحب والعواطف على أطفالهن، ولكن عندما يخطو الأبناء نحو الاستقلالية، يُفسر هذا السلوك على أنه تحدٍ للحب، فتبدأ الأم بسحب التوظيف العاطفي من العلاقة لتشعر ابنها بالذنب ، مما يؤدي إلى توقف النمو النفسي للإبن، الذي يصبح عاجزاً عن فرض ذاته وتكوين هويته، خوفاً من فقدان تلك العاطفة التي طالما اتكل عليها.

في هذا السياق، أود أن أوجه نداءً لكل الأمهات: إذا كنت تمارسين هذا الأسلوب بطريقة لاواعية ، فحان الوقت لتعي ذلك . فالأمومة ليست مشاعر أنانية ، بل هي تجسيد لأمانٍ لا يعقبه خوف، ولدفءٍ لا يتبعه برد ، في الأمومة نكون بصدد تجاوز عتبات الحب إلى مقام أعلى، مقام التكافل والنمو.

إن أشد الهزائم مرارة أن تُهزم من جيشك الأول، وأن يأتي الخذلان من داخل أسوار قلعتك. لذا، فلنتذكر أن الحب الحقيقي لا يُقيِّد بسلاسل من التوقعات بل يفتح آفاقاً من الإمكانات ليعبر الإنسان نحو ذاته ، الاستقلالية تمنح الانسان أجنحة يحلق بها بعيدا دون أن ينسى الفضاء الآمن الذي منحه هذه الأجنحة .

يستخدم أصحاب العدوانية المستترة التعاطف كسلاح لبسط نفوذهم على الناس ، فمنهم من يرتدي عباءة الضحية على الدوام هذا الصنف بتلذذ بعذاباته ويبالغ في عجزه المفترض وإذا حاولت تقديم النصح ومحاولة حثه على تحمل مسئولية حياته قد ينفجر في وجهك ويضمك الى قائمة من تجنى عليه ، صاحب ذلك الدور يعاني محنةً و مرارةً وكرباً على الدوام فهو خبير في اجتذاب الآلام الى نفسه فكل ضحية تبحث عن جلاد ، إذا تزوج سيختار من تُخيّب أمله وإذا شرع في وظيفةٍ يُهمِل ويضع نفسه في مواقف تجلب له الإنتقاد وهكذا إلى أن يتداعى العالم من حوله ، والغريب أن الضحية الحقيقي لا يستمتع بآلامه ويشعر بالإحراج من سرد قصة معاناته ولن يفعل إلا إذا كان مكرها على ذلك .

ولا نستبعد أن تظهر على صاحب هذا الدور أعراض مرضية واعتلالات نفسية تجعل معناته تبدو حقيقية فهو تعود أن يُمرض نفسه بالقلق ويُفكر بطريقة مختلة تقوده الى الإكتئاب لينعُم باهتمام من حوله وإذا حاولت الإعراض عنه فمن المتوقع أن يميل إلى تكثيف الأعراض ليلتهم وقتك ومساحتك الذهنية ويصيبك بطاقته فيصعب عليك الافتراق عنه .

يصطاد صاحب العدوانية المستترة الاشخاص المتعاطفين ويلعب على مشاعر الذنب عندهم ، لذلك إذا كان في محيطك أحد هؤلاء الاشخاص فاحرص على خلق مسافة داخلية فاصلة تمكنك من أن ترى ما وراء الامور بصورة أوضح وتتحرر من هذه العلاقة المرضية ، فأنا لا أدعوك هنا لإقالة العاطفة ولكن أدعوك للإرتحال إلى ماوراء الظاهر لسماع ما لم يقال وللتبصر بعدوانية خفية تُحول العاطفة الى مِحن ومآزق .