الرشد الوجداني
يقلم / د. ولاء قاسم
يصل الكثير من الناس إلى مرحلة الرشد عمريًا، لكنهم يفتقرون إلى الرشد وجدانيا .
في مراحل النمو النفسي التي حددها العالم إريك إريكسون في نظريته ، يمكن التحدي في بناء العلاقات .
ففي “الرشد المبكر” بين العشرين والأربعين، يكون التحدي هو تكوين علاقات حميمة، سواء في الزواج أو العمل ،بينما في “الرشد المتوسط” بين الأربعين والستين يشمل الأمر إنشاء علاقات أبوية داعمة مع الأجيال الشابة ، أما في “الرشد المتقدم” بعد الستين، تكمن المهمة في تمرير الحكمة للأسرة و للأجيال اللاحقة .
لكن ماذا لو اكتشفنا أننا مع هذه الغالبية من الناس التي وصلت إلى عمر الرشد زمنيا ولم تطاله وجدانياً وروحياً ؟! حينها ما العمل وكيف نلحق بقطار الرشد الذي فاتنا ؟!
رغم بساطة السؤال ومنطقيته، ورغم أن الإجابة يمكن تلخيصها في مباديء بسيطة نظريا ،
لكني أود التأكيد ابتداءَ على أن عملية النضوج هي رحلة طويلة قد تستغرق العمر بأكمله .
اهم المباديء التي يمكنك أن تستند عليها في رحلتك نحو الرشد الوجداني هما “التأمل والتدريب ” . التأمل يعني اختيار الاستغراق في الحياة بدلاً من العيش على السطح، بينما التدريب يمثل الاستمرار في ممارسة الأفعال التي ندرك صدقها وفعاليتها .
وللتأمل والتدريب تطبيقات مختلفة على مستويات متعددة في الحياة .
يطال التأمل ماضينا فعلينا أن نحاول مواجهة الأحداث المؤلمة التي لازلت تؤثر فينا و نحاول تغيير ما نستطيع من أنماط السلوك غير البناءة التي ورثناها من والدينا وأسرنا ولا نزال نكررها بطريقة لاواعية وبشكل قهري غير مقصود .
و نطمح إلى علاقات مُشبعة من خلال اختيارات واعية ونمارس فيها الاستماع و التواصل العميق وصولاً إلى القَبول والتفهم مع استمرار الاعتراف بالخطأ والمواجهة بالصبر والغفران .
المطلب الأعظم للرشد الوجداني هو القدرة على ضبط توازنات العلاقات بين الحب والحرية وبين الأخذ والعطاء وبين الإقتراب والإبتعاد وبين التكلم والاستماع وتَحمّل تلك التناقضات وما تتسبب به من الإحباط في العلاقات .
ولعل أبرز تحدي نواجهه في العلاقات هو علاقتنا من ذواتنا وضبط تلك العلاقة يستلزم إدارك المشاعر والاعتراف بها وتفريغها كتابةً من خلال دفتر ” يوميات وجدانية ” إذا تعذر الحديث عنها . كما تستلزم العلاقة الصحية مع الذات رصد الأفكار التلقائية وفحص الانطباعات المباشرة وتصحيحها في كل مرة فذلك يمثل خطوة نحو النضوج .
ويمتد مبدأ التأمل والتدريب ليغطي حياتنا الروحية ، فالروحانية المُتأمِلة لا بد أن تشتمل على محاولة صادقة للخروج من ضيق النفس إلى سعة الخالق عز وجل مع الطلب المستمر لمعرفته من خلال التواصل العميق معه .
في مرحلة الرشد المتوسط بين الأربعين والستين يكتشف كثير من الناس أنه عاش حياة أُحادية البعد وليست متعددة الأبعاد فقد حصروا انفسهم في هدف واحد قد يكون الأبناء او العمل او تحقيق الثراء متجاهلين تلك الجوانب الحقيقية من الذات دون أي محاولة للإستثمار فيها .
ثم يدركون فجأة أن مابقي العمر أقل من مامضى فيدخلون إلى أزمة منتصف العمر وترجع تلك الأزمة إلى أنهم لم ينجزوا مهام النمو والتطور المطلوبة في ذلك العمر . فلا يستطعون تمرير حكمة الحياة إلى جيل قادم بل يصابون بالركود والسكون كبركة آسنه وينغمسون بفعل الألم والإحباط الوجودي في المتعة واللهو أو العلاقات العاطفية والجنسية حتى النخاع ، وقد تسبب تلك الأزمة في هدم بنيان افنوا أعمارهم في تشيده .
أما في المرحلة المتقدمة من العمر، بعد الستين، نجد أن الشيخ الذي يفتقر إلى الرشد الوجداني يعيش في فقاعة من الذكريات، متمسكًا بحنين عاطفي إلى ماضٍ مجيد، يتباكى على أطلاله. فيعيش على هامش الحياة منفصلًا عن الواقع، محصورًا في نفسه واحتياجاته، يشعر بالعقوق من الجيل الأصغر، ويمارس عليهم ضغوطًا نفسية وإشعارًا بالذنب.
بينما المُسن الذي بلغ الرشد الوجداني ، فيشعر بفخر حقيقي بنجاحات الجيل الذي يليه. لديه رغبة صادقة في تقديم خلاصة خبرته لهم، فهو لا ينظر إلى الوراء، بل يركز على الغد ، مدركًا أن أمامه عمرًا سيعيشه حتى آخر رمق ويدرك أن من حوله أشخاصٌ يمكنه نقل رسالة الحياة إليهم، وهذه الفئة من البشر هي التي تساعد المجتمع على استيعاب ماضيه، وفهم حاضره، واستشراف مستقبله.