واشنطن – (د ب أ):
أثارت إقالات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمسؤولين رفيعي المستوى في وكالات الاستخبارات الأمريكية جدلا واسعا حول تأثير هذه التحولات على استقرار الأمن القومي. هذه الإقالات، التي تم تبريرها بعدم الولاء الشخصي للرئيس، أثارت قلقا من أن هذا التغيير في القيادة قد يعرض جهود مكافحة التهديدات الأمنية للخطر، ويقوض التنسيق بين الوكالات العسكرية والاستخباراتية.
وقال الباحث الأمريكي بيتر سوتشيو في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست إن تبرير الرئيس ترامب لحملة الإقالات الواسعة بين كبار مسؤولي وكالات الاستخبارات والجيش يثير تساؤلات جدية، خصوصا عندما يبدو أن الولاء لم يعد يُقاس بالانتماء إلى الدستور الأمريكي، بل بالولاء للأجندة الشخصية أو السياسية للرئيس.
فقد أقال ترامب الأسبوع الماضي رئيس وكالة الأمن القومي والقيادة السيبرانية الأمريكية. ورغم أن ترامب خاض حملته الانتخابية على أساس تقليص حجم الحكومة الاتحادية، فإن الإطاحة بالجنرال تيموثي هوج، صاحب الأربع نجوم، كانت خطوة غير متوقعة.
وصادق مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع على تعيين هوج في عام 2023 لقيادة الوكالة والقيادة. ورغم تعيين هوج في المنصبَين من قبل الرئيس السابق جو بايدن، فإنه كان يُنظر إليه على أنه غير مسيّس إلى حد كبير.
وعمل هوج في مجال استخبارات الإشارات وكان ضابطا محترفا في الجيش، ومن المرجح أنه كان يدرك التحديات التي تواجه البلاد في مجال الفضاء السيبراني، سواء من الخصوم المماثلين في القوة أو الدول المارقة أو الجهات الإجرامية.
ولم يكن مفاجئا أن يعبّر المشرعون عن غضبهم وقلقهم إزاء قرار إقالته.
وقال السيناتور أنجوس كينج (مستقل من ماين)، وهو عضو في لجنتي القوات المسلحة والاستخبارات في مجلس الشيوخ، للصحفيين تعليقا على الإقالة يوم الخميس الماضي: “نحن نتعرض لهجوم، والرئيس بكل تهور أقال أهم جنرال لدينا في هذا المجال .. هذا قرار شنيع.”
وغالبا ما يُعفى الضباط العسكريون من مناصبهم بسبب فقدان الثقة، كما حدث مع الكابتن ديفيد سنودن، قائد حاملة الطائرات الأمريكية العاملة بالطاقة النووية من فئة “نيميتز”، بعد اصطدامها بسفينة تجارية في البحر المتوسط في فبراير/شباط الماضي. أما في حالة الجنرال هوج، فقد تم عزله بسبب “الافتقار للولاء” للرئيس ترامب.
ويرى سوتشيو أن إقالة هوج، إلى جانب نائبة مدير وكالة الأمن القومي ويندي نوبل، جاءت بسبب ما اعتُبر “عدم ولاء” للرئيس، ويُقال إن هذه الخطوة جاءت بناء على توصية من الناشطة اليمينية المتطرفة وصاحبة نظرية المؤامرة المعروفة لورا لومر، الحليفة المقربة من ترامب.
ولم يكن السيناتور كينج وحده من عبر عن غضبه من إقالة هوج ونوبل.
فقد كتب دون بيكون (جمهوري من نبراسكا)، رئيس اللجنة الفرعية للأمن السيبراني التابعة للجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، على منصة “إكس” يوم الجمعة: “تمت إقالته دون أي تفسير علني .. هذا الإجراء يضرّ بعملياتنا في مجال الأمن السيبراني واستخبارات الإشارات.”
أما التفسير الأوضح الذي وصل إلى الرأي العام، فجاء من لورا لومر نفسها، التي سارعت إلى نشر تعليق على وسائل التواصل الاجتماعي فور إقالة هوج ونوبل.
وكتبت لورا لومر في منشور على منصة “إكس”: “لقد كان مدير وكالة الأمن القومي تيم هوج ونائبته ويندي نوبل غير مخلصين للرئيس ترامب. ولهذا السبب تم طردهما.”
وأضافت: “بصفته مُعينا من قبل بايدن، لم يكن للجنرال هوج أي مكان في إدارة ترامب، خاصة أنه تم اختياره شخصيا من قبل الجنرال مارك ميلي، الذي اتهمه الرئيس ترامب بالخيانة. لماذا نريد مديرا لوكالة الأمن القومي تمت تزكيته لبايدن بعد أن اختاره ميلي، الذي أخبر الصين بأنه سيقف إلى جانبهم ضد ترامب؟!”.
ولم تقتصر حملة الإقالات على وكالة الأمن القومي وقيادة العمليات السيبرانية فقط. فقد أقال ترامب أيضا ما لا يقل عن ستة أعضاء في مجلس الأمن القومي، الذي يقدّم المشورة للرئيس في شؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية.
ويهدف مجلس الأمن القومي إلى العمل كلجنة تقدم المشورة للرئيس في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية، وتنسق السياسات مع الوكالات الحكومية المختلفة.
ويوضح الموقع الرسمي للكونجرس الأمريكي:”تم إنشاء مجلس الأمن القومي بموجب قانون في عام 1947 ليكون هيئة بين الوكالات تُقدم المشورة للرئيس في شؤون الأمن القومي. وقد أُنشئ المجلس بشكل أكثر تحديدا لدمج السياسات الداخلية والخارجية والعسكرية ذات الصلة بالأمن القومي، وتسهيل التعاون بين فروع القوات المسلحة وغيرها من الوزارات والوكالات الحكومية في القضايا المتعلقة بالأمن القومي.”
وأثناء وجوده على متن طائرة الرئاسة “إير فورس وان”، قال ترامب للصحفيين: “من المعتاد أن يتم طرد الأشخاص الذين لا نحبهم أو الذين لا نعتقد أنهم قادرون على أداء المهمة، أو الأشخاص الذين قد يكون لديهم ولاءات لأطراف أخرى … هذا أمر طبيعي دائما.”
ولم يوضح الرئيس ترامب لمن كان الأفراد الذين أقالهم موالين، لكن ضباطا مثل الجنرال هوج كانوا قد أقسموا اليمين على الولاء لدستور الولايات المتحدة، وليس لأي شخص، بما في ذلك رئيس البلاد.
وحذّرت محللة الجغرافيا السياسية إيرينا تسوكيرمان، رئيسة شركة “سكاراب رايزينج” لتقييم التهديدات السياسية، قائلة: “إن الإقالات الأخيرة لشخصيات رئيسية في مجلس الأمن القومي، إلى جانب قيادات من وكالة الأمن القومي والقيادة السيبرانية الأمريكية، تمثل لحظة مفصلية في نظام الحكم بالولايات المتحدة، ويتعيّن تحليلها من منظور إعادة التموضع الاستراتيجي وتبعاتها المحتملة على الأمن القومي.”
وأضافت تسوكيرمان في تصريح لمجلة “ناشونال إنتريست”: “تبرير الرئيس ترامب لهذه الإقالات، والمتمثل في أن الأفراد لا يمتلكون الولاء الصحيح، يثير تساؤلات خطيرة، خاصة عندما يبدو أن مفهوم الولاء لم يعد قائما على الالتزام بالدستور الأمريكي، بل على التماهي مع الأجندة الشخصية أو السياسية للرئيس.”
وتمت إقالة ما لا يقل عن ثمانية أفراد يشغلون مناصب رئيسية في مجال الأمن. ومن بين هؤلاء براين والش، المدير الأول للاستخبارات، وتوماس بودري، المدير الأول للشؤون التشريعية، وديفيد فايث، المدير الأول للتكنولوجيا والأمن القومي.
وتأتي هذه الإقالات بعد أسبوعين فقط من عدم اتخاذ أي إجراء تأديبي بحق عدد من المسؤولين الذين أظهروا ولاء لترامب، رغم أنهم شاركوا، عن غير قصد، معلومات يُرجَّح أنها كانت سرية بشأن ضربة وشيكة على مواقع الحوثيين في اليمن، وذلك عبر تطبيق المراسلة “سيجنال”.
وكان جيفري جولدبيرج، رئيس تحرير مجلة “ذا أتلانتيك”، قد أُضيف عن طريق الخطأ إلى مجموعة دردشة أنشأها مستشار الأمن القومي مايك والتز، وضمت وزير الخارجية ماركو روبيو ووزير الدفاع بيت هيجسث.
وأثناء الحملة الانتخابية العام الماضي، كان والتز قد حفظ رقم جولدبيرج بالخطأ، ظنا منه أنه يعود إلى المتحدث السابق باسم ترامب، براين هيوز.
ورغم أن ترامب فكر في إقالة والتز، إلا أن ما أزعجه أكثر لم يكن الخلل الخطير الذي كان يمكن أن يعرّض أمن العمليات العسكرية الأمريكية للخطر، بل حقيقة أن والتز كان يملك رقم جولدبيرج.
وكتب السيناتور مارك وارنر (ديمقراطي – فيرجينيا): “من المذهل أن يقيل الرئيس ترامب قائدا غير حزبي وذو خبرة مثل مدير وكالة الأمن القومي، بينما يمتنع عن محاسبة أي فرد من فريقه رغم تسريبهم معلومات سرية عبر تطبيق مراسلة تجاري، وكل ذلك في وقت يتلقى فيه توجيهات تتعلق بالأمن القومي من منظّر مؤامرات فاقد للمصداقية داخل المكتب البيضاوي.”
وأضافت تسوكيرمان: ” تأتي هذه الإقالات في أعقاب ما يُعرف بفضيحة تسريب سيجنال، التي كشفت عن ثغرات في وسائل الاتصال الآمن، وزادت من القلق داخل مجتمع الاستخبارات “.
وتابعت: “الكثيرون يخشون تآكل الاحترافية والموضوعية والتنسيق بين الوكالات، وهي الركائز التي طالما استندت إليها الجهود الاستخباراتية الأمريكية.”
فأي تغيير في معايير الولاء، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمسؤولين مكلفين بحماية الولايات المتحدة، يحمل دلالات تتجاوز مجرد إعادة توزيع إداري داخل الحكومة.
وتابعت تسوكيرمان: “عندما يتم تطهير القيادة العليا في مجالي الاستخبارات والأمن السيبراني، والاستعانة بدلا منهم بأشخاص لم يخضعوا للفحص الأمني المناسب أو يفتقرون إلى الخبرة في شؤون الأمن القومي، فإن ذلك يهدد استمرارية وكفاءة قدرات الولايات المتحدة على كشف التهديدات وردعها.”