ثلاث سنوات هي المدة المتبقية للإنتخابات الرئاسية في تركيا، المرشح البديهي لها سيكون الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، لكن هذه المرة لن تكون في المتناول على ما يبدو فهناك من يهدد عرشه بطريقة جدية وغير مسبوقة خصوصا بعد الحال الذي وصلت له تركيا في عصره سواء إقليميا أو دوليا. لا أحد ينكر أن أردوغان صنع نهضة مهمة في تركيا سواء على مستوى الصناعة أو الزراعة أو التجارة وحتى السياحة، ولكن من المستفيد الأول من هذه النهضة هل هو الشعب التركي وحده؟
أردوغان يعتبر من أوائل المستفيدين من النهضة في تركيا، لأنها سهلت له السيطرة على البلاد والتفرد بحكمها بشكل مطلق وأعادها إلى حقبة الدكتتوريات الدستورية، فمثلا لو أنه لم يصنع إنجازات أثناء توليه منصب عمدة إسطنبول من عام 1994 وحتى عام 1998 لما كان ليصل هو وحزب العدالة والتنمية لرئاسة وزراء البلاد في عام 2003، خصوصا في بلد مثل تركيا سقف الحريات فيه مرتفع والإنجازات والرفاهية والأموال مهمة جدا لشعبه.
أردوغان استفاد أيضاً من الإنجازات التي صنعها بأموال الأتراك، ليجمع ثروة هائلة له ولعائلته، وبات صهره ووزير مالية البلاد الحالي برات آلبيراق، هو مسؤول ملفه المالي السري في الخارج وهذا المال تكون من ثروة الأتراك التي أخذ أردوغان نسبة كبيرة منها من خلال صفقات مشبوهة أثناء توليه منصب عمدة إسطنبول أو رئاسة الوزراء والشركات الوهمية التي تتبع له وتأخذ المناقصات التركية، وآلبيراق هو أيضاً يد أردوغان السوداء في جميع الصفقات المشبوهة في خارج تركيا سواء في تشكيل “داعش” أو شراء النفط والغاز السوري من هذه الجماعة الإرهابية، أو شراء معامل الصناعيين في حلب والمحطات الحرارية والكهربائية السورية من قبل المسلحين الذين سيطروا على المنطقة بفضل الآلة العسكرية التركية، إضافة إلى أنه زعيم مافيا تهريب البشر من تركيا إلى أوروبا.
أردوغان اعتمد على سياسة صفر مشاكل مع دول الجوار وأوروبا حتى يضمن ثقة الشارع فيه وهو أمر مهم جدا للأتراك لأنهم شعب يسعى للاستقرار في محيطه وضد عسكرة المجتمع، لذلك أردوغان فهم عقلية المجتمع ولعب على هذا الحبل فنزع فتيل الخلاف مع سوريا الذي اندلع في أواخر التسعينيات، وسعى لتهدئة الوضع مع العراق الذي كان لتوه خارج من قبضة نظام صدام حسين في عام 2003، وسعى لعلاقات طيبة مع الدول العربية على مضض لأنه أخفى ما أظهر لهم وهي أمور مجتمعة ثبتت نظام حكمه وتغلغله في مؤسسات الدولة وكون منها ثروة هائلة في الخارج، وبعدها انقلب على كل إنجازاته واستخدمها كعصا بوجه الأتراك، ففي عام 2014 عندما شعر أن الكفة الكردية سوف تغلب في الانتخابات البرلمانية دبرت مخابراته تفجيرات إرهابية ضد التجمعات الانتخابية الكردية في عدة مدن تركية، وعندما حقق الأكراد إنجازا مهما في الانتخابات البرلمانية، شن حملة عسكرية شعواء على المدن الكردية جنوب شرق البلاد ثم اعتقل زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش، بدون تهمة رسمية.
مسؤولون كثر من حزب العدالة والتنمية صرحوا علانية للناخبين في عدة دوائر تركية بأن الأمن والرفاهية والصناعة والسياحة في تركيا مرتبطة بأردوغان ووجودهم في السلطة فإن رحلوا سوف ترحل معهم وستعيش تركيا سنوات من النزاع المسلح والهبوط الاقتصادي وفقدان الرفاهية، وهو ما أجبر الشعب على التصويت له خوفا على مستقبلهم، ولكن في عام 2018 تلقى أردوغان صدمة كبيرة عندما واجهه زعيم حزب الشعب الجمهوري محرم اينجه، بشراسة في الانتخابات ثم أتت الصدمة الأخرى عندما خسر بلدية اسطنبول لصالح المعارض أكرم إمام أوغلو، الذي نافس أهم شخصية سياسية لدى أردوغان وهو رئيس وزرائه السابق بن علي يلدريم، وهذه الخسارة كانت على جولتين، ففي المرة الأولى رفض أردوغان النتيجة وطلب الإعادة وفي الإعادة خسر أيضا وهي رسالة تفيد بأن الشعب لم يعد معه.
أردوغان بات عبئا حقيقيا على الإسلام السياسي في تركيا، لذلك بدأ رفاق الماضي له تشكيل جبهة معارضة ضده من أجل إنقاذ الإسلام السياسي من الرحيل نهائيا عن الحياة السياسية التركية لذلك بدأنا نرى تشكيل أحمد داود اوغلو رفقة عبد الله غول لحزب سياسي إسلامي معارض لأردوغان، وشاهدنا أن حزب السعادة الإسلامي لم يصوت لأردوغان في الانتخابات الماضية، لأن هناك ثقة في هذه التيارات بأنها لو ذهبت من كرسي السلطة في تركيا لن تعود له أبدا، لأن الشعب التركي لن يسلمهم رقبته مرة أخرى. لكن هذه التيارات لا تستطيع منافسة أردوغان بشكل جدي لأنها لا تمتلك شخصا ذا كاريزما سياسية يستطيع منافسته، لذلك لا يمكن التعويل على شخصية من الإسلام السياسي التركي لتحل محل أردوغان.
أما البدائل الأكثر واقعية الأول هو أكرم إمام أوغلو لأنه يمتلك كاريزما مهمة لدى الناخب التركي وخطابا حديثا يستطيع من خلاله امتلاك رأي الشباب ويضعه إلى جانبه إضافة إلى أن في جعبته خطة لإعادة تصحيح العلاقات التركية مع العالم العربي وإنهاء التدخل التركي في دول الجوار. أما الثاني هو محرم اينجه، لأنه يعتمد على ثقل حزبه ويمتلك نفس الرؤية في تصحيح الوضع التركي مع العالم العربي.
أردوغان يسعى للبقاء إلى الأبد في كرسي الحكم التركي لأنه يعلم بأن أي سقوط منه يعني سقوطه إلى الأبد، وحذفه من الذاكرة السياسية التركية وحتى قد يتم محاكمته. أما شعبيا فإن هناك استعداد من قبل شريحة ليست بقليلة من الأتراك للصبر اقتصاديا وأمنيا إن كان الثمن انتهاء حقبة حكم أردوغان.