الهجرة .. مشقة وبشرى

لكل أمة تاريخ يرمز إلى ثقافتها وحضارتها وهو مستودع أمجادها وسجل فخارها.. فالمصريون  كانوا يؤرخون بالنجوم، والفرس كانوا يؤرخون بولاية ملوكهم، والنصارى بميلاد المسيح .. فيما اتخذ الفاروق عمر “رضي الله عنه” من حادث الهجرة النبوية بداية العام لدى المسلمين، لما لهجرة المصطفى “عليه الصلاة والسلام” من مكانة في تاريخ الإسلام والبشرية جمعاء، ذلك الحدث الذي قلب موازين التاريخ ومسيرة الحياة، فكانت بداية دولة الإسلام وحضارتها ..

الهجرة ليست احتفالاً يقام  في يوم هنا وهناك، وليست فرحةً عابرةً.. إنها مسألة مبدأ ودين لأن شخصية محمد “صلى الله عليه وسلم” لم تستمد عظمتها من بيئته وعبقريته، وإن كانت هذه الأشياء لايستغنى عنها ..لكن عظمة محمد “صلى الله عليه وسلم” تكمن في أن الله اختاره لقيادة البشرية وأودع فيه من الصفات التي تساعده على إنجاز هذه المهمة العظيمة وتُحمل تبعاتها.   

لقد مكث النبي «صلى الله عليه وسلم» ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو إلى الله .. سنوات ذاق فيها من العذاب والاضطهاد الشيء الكثير ، وقد عز على النبي الكريم أن يفارق مكة وكان يقول: ” واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ماخرجتُ”…

سيدي رسول الله

كان الله قادراً أن ينقلك من مكة إلى المدينة كما نقلك بالبراق من مكة إلى القدس لكن شاء الله أن تكون القدوة والأسوة..تهاجر وتطارد وتتعب.. تعيش كما يعيش الآخرون من آلام وتضحيات فتظل سيرتك مدرسة لكل سالك لهذا الطريق .. ” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة “.

سيدي أبا القاسم

بالرغم من توالي الأزمات كنت تزداد تفاؤلاً بمستقبل دعوتك، ويقيناً بموعود ربك. فلما وصل المشركون إلى فم الغار في أشد لحظات الكرب والمحنة قلت لصاحبك مطمئنا: ( مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ) وبشرت سراقة بن مالك الذي جاء يطلبك بسيفه طمعاً بجائزة قريش، بشرته ليس فقط بظهور الإسلام على قريش وجزيرة العرب بل بسقوط عرش كسرى بل أكثر من ذلك تقول له وكأنك ياسيدي تعاين المشهد حقيقة “كأني بك ياسراقة تلبس سواري كسرى ” .. وقد كان..!!

وفي غزوة الأحزاب تتجلى دروس التفاؤل في أعظم محنة ٍوبلاء ، ويكفي أن الله تعالى وصف حال المسلمين بقوله : « إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا » فلم يقتصر منهجك بالتبشير لأصحابك بالخروج من الحصار وتحقيق النصر ، بل وعدتهم بفتح بلاد كسرى وقيصر وبلوغ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها..

وحين بلغك نبأ نقض بني قريظة عهدها معك في تلك الغزوة  ومع ما يحمله ذلك النبأ من خطرقادم على المسلمين والدعوة  نفسها، لم يزد على أن قلت : اللّهُ أَكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ .فكل هذا وغيره

مواقف نبوية جلية الدلالة بأن منهج الرسول الخاتم “صلى الله عليه وسلم” في التعامل مع الأزمات والمحن هو التفاؤل وحسن الظن بالله تعالى ، واليقين بصدق وعده لعباده المؤمنين.

سيدي أبا الزهراء

لقد ودعنا عاماً من هجرتك المباركة  كان لجائحة الآلام منها النصيب الأكبر خلفت نحو 23 مليوناً من الضحايا والمصابين وتركت شروخاً اجتماعية يعز إصلاحها ومآسي يصعب عدها والإحاطة بها ، ومازالت سيوف الكورونا تصول وتجول بأشكال جديدة وأسلحة غير مألوفة .. لكن منهجك في الأزمات والمحن حسن الظن بالله والتفاؤل لا التشاؤم.. والتبشيرلا التيئيس.. فحيهلا بالعام الجديد فلعل في أيامه تكون نهاية المحنة وانحسار الوباء وعودة الحياة.. وعسى أن يكون قريباً. 

د. موسى علي حمد