مرئيات

أرواحٌ مُسنة

بقلم / د. ولاء قاسم

ترعرع كثير من الأشخاص في ظروف خاصة فرضت عليه أن يكون ( رجلاً صغيراً ) أو تكون ( أما صغيرة ) فبينما ينخرط أقرانه في اللعب والمرح أُلقيت على عاتقه هو أعباءً ثقالاً تفوق قدراته العاطفية والإنفعالية ، وشخصياً أعتبر ذلك إساءة نفسية مبكرة ستترك بصمة واضحة على الطفل لأن الإساءة في عمر صغير أكبر أثراً ، فقد عجنت في مادة التكوين التي لا تزال غضة سهلة التشكيل .

يتم فرض تلك المهام الجسام أو المسؤوليات الكبيرة على الطفل إما نتيجة أنانية الوالدين وتمركزهم حول ذاوتهم
أو بسبب انشغال الوالدين وظروف حياتهم الصعبة ،
وفي بعض الأحيان نتيجة جهل الوالدين واعتقادهم أن تحميل الطفل أعباء كبيرة في صغره يحفز نضوجه المبكر ويصنع منه شخصاً جاداً وناجحاً في المستقبل لكن ذلك في الحقيقة يخلف جراحاً نفسية غائرة ، فيكبر الصغير . وبرغم اتزانه الظاهري يلازمه شعور بالحرمان من متع الطفولة البرئية ويظل يبحث عن طفولته الضائعة وغبطته المفقودة !! .

غالباً يكون الطفل الأكبر سناً أو الأعقل والأكثر هدوءً هو المرشح لذلك الدور ، عادة مايكون هؤلاء الأطفال أكثر استقلالاً واعتماداً على ذواتهم ويكرهون أن يكونوا سبباً لضيق والديهم فيعتمدون على مواردهم الداخلية لحل المشكلات .
أحياناً يطلق على هذا الصنف من الأطفال ” الأرواح المسنة ” ، هذا الإعتماد على الذات يؤدي إلى إهمال الوالدين لأنهم يعتقدون أن طفلهم قادر على تدبر أُموره بشكل جيد ، لكن الأسوأ في الأمر هو عدم حصول الطفل على الإشباع النفسي فليس من الجيد لأيّ طفل أن يشعر بأنه غير مرئي عاطفياً .

في تلك الحالة تصبح الحاجه لإتصال عاطفي عميق هي الحقيقة المركزية لوجود هؤلاء الأطفال ، فهم بحاجه دائمة للشعور بالاتصال ولكن ليس كباعث اجتماعي كحاجة الناس للحديث أو الدردرشة وإنما هو جوع حقيقي للعاطفة ، ويشعر هؤلاء الصغار أنهم بمنح المساعدة وإخفاء الاحتياجات سينالون حب والديهم فيعتقد ذلك الطفل أن ثمن الحصول على العاطفة هو وضع الآخرين في المقام الأول والتعامل معهم على أنهم الأكثر أهمية ، لكن مع الأسف فإن هؤلاء الأطفال لا يدركون بأن الحب غير المشروط لا يمكن شراؤه بسلوك مشروط .

الحاجه الماسة للعاطفة تجعل الطفل كالشوكة الرنانة يلتقط كل الإشارات العاطفية حوله سواء كانت من والديه أو إخوته وقد يضطر الطفل للقيام بعمل عاطفي لوالديه ، وكثيراً ما يمتد هذا العمل ليشمل تقديم الرعاية الأبوية والأمومية للوالدين فيتحول الطفل من دور البنوة لممارسة أدوار من الطمأنة والدعم وتقديم المشورة فيتبى الطفل دور الداعم عاطفياً قبل وقت طويل من بلوغه لعمر النضج الذي يمكنه من القيام بهذا الدور فيكاد يكون أباً أو أماً لوالديه لكن هذا الإنعكاس في الأدوار موقف خاسر بالنسبة للطفل يتطلب منه جهداً عاطفياً مفرطاً .

هذه الممارسات غير الناضجة من الوالدين تجاه أطفالهم تدفع الأطفال الى تطوير موقف رافض لمشاعرهم واحتياجاتهم الخاصة ، كما أن الإهمال العاطفي للطفل يجعل الاستقلال يبدو كفضيلة (رغم إنه كان ضرورة وليس اختياراً ) ، فيتمسك الشخص بدرجة كبيرة من الاستقلال عندما يكبر تجعله يترفع عن طلب المساعدة ويفضل الألم والمعاناة على طلب المساعدة المشروعة حتى لو توفرت طوعاً.

القيام بأعباء العمل العاطفي في الطفولة يجعل الشخص يتحمل الكثير من الأعباء في علاقاته بعد البلوغ فيضطلع بدوره ودور شريكه في العلاقة ولا يدع مجال للتبادل ، فيشعر كأن تأمين العلاقة والمحافظة عليها هي واجبه ومهمته وحده ويمارس الصبر والتهدئة ويحاول التواؤم والتوافق مع شريكه حتى لو كان الشريك مؤذياً أو أخرق عاطفياً أو يتسبب له بالبؤس والشقاء .

رغم ما يتسم به هؤلاء الأشخاص من الإدراك والحساسية تجاه مشاعر الآخرين واحتياجاتهم لكنهم لا يعرفون شيئاً عن أهمية الرعاية الذاتية وحماية طاقتهم من الاستنزاف ويتجاهلون احتياجهم للراحة والتعاطف والاحترام بل يعتقدون أن التضحية بالنفس هي السبيل للحصول للحب والمحافظة على العلاقات لذلك يبذلون قصاري جهدهم في العلاقات فيتعرضون للاستغلال وينخرطون في علاقات مؤذية وغير مُرضية وغير مُشبعة تسبب لهم الإستياء والإرهاق .

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى